الصورة ذاتها التي تنقلها الصحف والمجلات الأدبية وشاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت العربية: ستمائة مثقف عراقي سيجتمعون في أربيل برعاية مؤسسة المدى الثقافية[1]. شعراء، صحفيون، روائيون، نقاد، رسامون، ممثلون، مخرجون سينمائيون، فلاسفة، سياسيون، مفكرون سيعقدون مؤتمرهم الأول في أربيل الربيع المقبل.
الصورة تتضح أكثر كلما اقتربنا زمنياً من دفء الربيع: أربعمائة مثقف عراقي سيغادر العاصمة بغداد ليلتقي بمائتي مثقف قادم من الخارج وسيجتمعون أول مرة في أربيل، تحت عنوان مؤتمر المثقفين العراقيين.
الصورة تتسع أكثر فأكثر: ثلاثة أجيال من مثقفي المنفى ومثقفي الداخل سيجتمعون للمرة الأولى في مكان واحد، ثلاثة أجيال فرقتهم المنافي والسياسة والهجرات والإيديولوجيات سيلتقون أول مرة ليتعرف بعضهم على بعض، لا من خلال الكتب والمقالات إنما وجهاً لوجه.
يأتي أمر البرنامج لاحقاً وهو الأهم: مائتا مثقف عراقي من أميركا وأوربا يجتمعون في فندق الساند روك في عمان، وفي الفجر ستقلهم طائرة عراقية خاصة إلى مطار أربيل لحضور مؤتمر المثقفين العراقيين، حيث سيلتقون هناك بأربعمائة مثقف قادمين من العاصمة بغداد، ومن محافظات العراق.
عودة المواطن
في مساء يوم ربيعي من أيام أبريل الذي تنعشه هبات الهواء الباردة، حملت حقيبة جلدية صغيرة على كتفي وانطلقت إلى فندق الساند روك، أقلني التاكسي الأصفر إلى أحد الفنادق الراقية في الضاحية الغربية من العاصمة الأردنية التي شيدها الملوك الهاشميون في العشرينيات من القرن الماضي. فجأة أصبحت من مثقفي الخارج، أنا الذي كنت من مثقفي الداخل قبل عامين تقريباً من الآن. لعبة مواقع لا أكثر، مركز يهمش مركزاً آخر، ويحل محله مؤقتاً. وهكذا أدين للحرب التي زودتني بالشك الذي لا ينتهي، والذي منعني من أن يصيبني بالعمى إيمان مطلق، وزودتني برغبة مجنونة بالوضوح، في عالم خلقته الحروب اللاعقلانية والتي تتسم دون شك بالفوضى والغموض.
هبطت من التاكسي، وضعت حقيبتي على ظهري وانطلقت نحو البوابة الزجاجية للفندق، هرع البواب ليحمل أغراضي على العربة فلم يجد في يدي سوى كتاب صغير وكاميرا رقمية، فعاد بعربته التي أخذ يدفعها يائساً أمامي وأنا أتبعه لأدخل صالة الفندق. كانت الصالة فارهة، وفارغة إلا من وجوه الندل ببدلاتهم الموحدة، ووجوه الخدم المصريين المبتسمة دوماً، وموظفات الاستعلامات الرشيقات...في الليل لم يكن هناك من أحد سواي. خلت أن المؤتمر لن يعقد في وقته المحدد بسبب غياب المدعوين، صعدت إلى حجرتي وارتميت على السرير، ودون أن أخلع ملابسي نمت...بين حين وآخر كانت توقظني صيحات رجال ونساء في الممر، لكنات عراقية ممزوجة بإنجليزية متقنة، أصوات العربات التي تحمل الحقائب، دورة المفاتيح في أبواب الغرف، فعرفت أن المدعوين أخذوا يتوافدون على الفندق ليلاً من كل مكان من العالم، وحين استيقظت تأكدت من ذلك.
في الصباح كانت صالة المطعم الواسعة مزدحمة تماماً، دخلت، لم أجد طاولةً أو كرسياً فارغاً، فوقفت في الزاوية وأخذت أرقب المشهد: ثمة أشخاص كثيرون واقفون هناك يتحدثون مع بعضهم، أو يسلم بعضهم على بعض، ضحكات، كركرات، ابتسامات. كنت تعرفت على الوجوه من خلال الصور المنشورة لها في الصحافة والتلفزيون. نحن الجيل الأخير من المثقفين العراقيين، لم نلتق بأي من هؤلاء الذي غادروا العراق في الهجرة الأولى، بعد المجازر التي ارتكبها صدام حسين ضد الشيوعيين في العام 1979. وهم أطلقوا على أنفسهم بالجيل الستيني، وربما هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بأشخاص، أراهم متجسدين أحياء أمامي، بعدما كنت عرفتهم منذ أكثر من عشرين عاماً حبراً على ورق. هذه المرة الأولى التي أراهم فيها بعد أن أصبحت كاتباً معروفاً. بينما قرأتهم منذ أن كنت مراهقاً، وهاجمتهم في كتبي جميعها وسخرت منهم، كما أنهم هاجموني ودافعوا عن أنفسهم. كنا في خطين مفترقين تماماً.هم مؤمنون، أما أنا فلا.
كنت أركز على فكرة التناقض التي يتسم بها الوجود، والقلق الذي ينخرني إزاء كل شيء، وكانت كراهيتي واضحة لكل نظام يقود إلى العنف وفوضى السلطة وعبادة القوة.
خطأ دلالي في التسمية
في المطعم وأنا أرقب بدهشة هذا المشهد الغامض إلى حد ما أمامي، وأتفحص هذا المشهد المتكون من الأشكال الغريبة في الملبس واللحى وتصفيفة الشعر والعطر والأتكيت والبلاغة المبالغ بها، كنت أفكر بخطأ دلالي في التسمية، فهذه الوجوه التي بدت عليها آثار الصحة، وهذه الأجساد الرياضية تقريباً، والصحية جداً، هي أجساد المنفيين. فعرفت أن المنفى هنا يفقد معناه الدلالي ويأخذ معنى آخر. معنى الوطن وبطريقة معكوسة تقريباً. فالمنفي يعيش في بلدان المنفى بصورة رائعة على الرغم من المعنى السلبي الذي تقدمه كلمة منفى. هذا المنفى يقدم: المال، والملابس الجميلة، والسلام، والصحة الرائعة. أما الوطن فإنه لا يقدم شيئاً من هذا. لقد أدركت قوة الخطأ الدلالي، السميوطيقي بمعنى ما، والذي حتمه هذا الحلم الفنطازي الطويل، فلا يمكن تقليص واختزال المنفى في معنى واحد، مثلما لا يمكننا أن نختزل الوطن في معنى واحد، إنما كل منهما يحمل مدلولات ومعان أخرى، المنفى هنا هو وطن، والوطن هناك هو منفى.
الشيوعية المتقاعدة والرأسمالية الجديدة
كنت أقف في الزاوية من المطعم وأرقب الوجوه جيداً، وكنت أدرك على نحو كامل أن أكثر هؤلاء القادمين من أوروبا كانوا من أنصار الشيوعية القديمة التي أطيح بها، وأكثر هؤلاء القادمين كانوا قد قاتلوا في حرب العصابات في الجبال في الشمال والأهوار في الجنوب، وهم أتباع جيفارا وهوشي منه وتروتسكي فيما مضى، وهم أتباع فوكوياما وصموئيل هنتكتون اليوم. صورة ليست مقلوبة تماماً، ولكنك إن ركزت قليلاً مثلي ستعثر على الصورة القديمة واضحة لا لبس فيها.
الصورة المعبودة القديمة لجيفارا الثائر تتراءى خلف الصورة الرأسمالية الشفافة: إنها اللحية النابتة والشعر الطويل بالرغم من التجميل الموضوي الجديد، إنها الشيوعية المتقاعدة ظاهرة ومتوارية خلف ملامح الرأسمالية الجديدة.
بعضهم أبقى على لحية (هوشي منه) الطائرة أبداً، اللحية القصيرة المدببة، والصلعة اللامعة وقد خفف من ثوريتها الفظة بالعطر اللاذع، والملابس الأنيقة، والأحذية الرأسمالية الغالية.
تروتسكي كان موجوداً أيضا بالنظارة المستديرة، بالشعر الناعم المردود إلى وراء، بالتقطيبة المعروفة، باليدين القويتين الحادتين ولكنه اليوم تروتسكي آخر، تروتسكي يستبدل الثورة العالمية بالثورة العلمية والتجارية والصناعية، ولا يخشى الاستيراد والتصدير وصرف العملة وشرب النبيذ الفرنسي.