يتخذ فهم العلاقة بين الذوات والمجتمعات المسلمة وبين الأنظمة السلطوية مكانةً مركزية في استيعاب الديناميات السياسية للجماعات الإسلامية في مجتمعات الشرق الأوسط المعاصرة، وقد تركّزت الدراسات الأكاديمية ضمن هذا الموضوع على الجماعات التي تبني وتحشد الذوات المسلمة ضمن مشروعٍ سياسيٍ صريح للإصلاح الاجتماعي بناءً على ما يعتبرونه ممثلاً لمبادئ الإسلام (Eickelman, 1996; Mitchell, 1969; Roy, 1992)، إلا أن من عادة هذه الدراسات أنها تَغفلُ عن وجود تمثلات أخرى للإسلام لا تملك مشروعاً سياسياً صريحاً، كالجماعات الصوفية، بالرغم من أنها صاحبة تأثير على توازن القوى بين الدولة والمجتمع، بل وأحياناً على نحو أكثر متانةً واتساقاً.
وبالرغم من صِحّة واقع وجود العديد من الجماعات الإسلامية السياسية التي كَرَّست حالة العنف والإرهاب السياسي، مثل جماعة التكفير والهجرة المصرية، إلا أن وجود جماعات أخرى اشتغلت على مسارٍ تحرري ومعتدل تجاه السلطة السياسية صحيحٌ أيضاً، مثل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن. ولذلك، لا بد من فهم ديناميات الجماعات الإسلامية السياسية من منظورٍ تاريخي، والتركيز على العوامل الاجتماعية والسياسية التي تُشكل طبيعتها المتطرفة أو المعتدلة بحسب كل نظامٍ سياسي. مثلُ هذا التطور السياسي يمكن أن نلحظه في استدماج حركة أمل وحزب الله داخل النظام السياسي في لبنان (Norton, 1988)، وهو ما كان نتيجة عوامل اجتماعية وفكرية وسياسية جديدة تطورت خلال العقدين الأخيرين (Khosorokhavar and Roy, 1999; Adelkhah, 2000).
يتم تصوير الجماعات الصوفية عادةً باعتبارها جماعات هادئة لا تشكل قوة سياسية (Gellner, 1993: 57-59)، أو باعتبارها مجرد أداة بيد السلطة، لكن الدور الهام الذي لعبته الطرق الصوفية في العديد من الثورات على السلطنة العثمانية أو القوى الاستعمارية أو الأنظمة الاستبدادية الحديثة في الشرق الأوسط تنفي عنها هذه الصورة السائدة. إن اتخاذ موقف التحالف أو المعارضة تجاه الدولة يُمثل استراتيجيةً سياسية بالنسبة للجماعات الصوفية في سوريا المعاصرة، وقد تمثل موقف التحالف في نموذج الإسلام الرسمي الذي عبرت عنه الطريقة النقشبندية الكفتارية، في حين تمثل الموقف المعارض في مشاركة أفرع من الطرق الصوفية في الصراع المسلح الذي انطلق مع المعارضة الإسلامية ضد نظام البعث بين ١٩٧٩ و١٩٨٢. وبناءً على ذلك، لا يعود التساؤل فيما إذا كانت الصوفية ذات طبيعة مذعنة أو موالية اتجاه الدولة، وإنما ما هي العوامل الاجتماعية والسياسية لكل شكلٍ من أشكال العلاقة مع السلطة السياسية.[1]
بنية الجماعات الصوفية
تعتبر الصوفية بمثابة التعبير الروحاني عن الإسلام، وهي موجودةٌ في المجتمعات السنية والشيعية. يعتمد طريق التصوف على البحث عن علاقةٍ مباشرة مع الله، حيث يُعتبر هذا الهدف هو نهاية طريقٍ طويل من المسار الروحاني (الطريقة)، والذي يكون تحت إشراف الشيخ الصوفي. تستند الذوات الصوفية على التجارب الذاتية التي تأتي نتيجة ممارسة طقوس روحية، ولكن بالرغم من استناد الطريقة الصوفية على التجربة الذاتية، إلا أنها لا تستند على مسارٍ فردي بشكل كامل بحيث يخلو من المحددات الخارجية، فالتجربة الذاتية لا يتم اعتبارها كواحدةٍ من الأحوال الروحية في الطريق الصوفي إلا إذا كانت تتحدر من الطرق والممارسات المُستقاة من النصوص والطقوس والتعاليم المتوارثة التي تشكل مختلف التقاليد الصوفية.
إن ضرورة وجود المحددات الخارجية بالنسبة للتجربة الروحية الذاتية تجعل مسألة التسليم للشيخ أمراً أساسياً بالنسبة للطريق الصوفي، ﻷن المشايخ هم الوحيدين الذين تحققوا بتجربة مباشرةٍ مع الحقيقة العليا، وهو ما يجعلهم القادرين على توجيه الآخرين السالكين في الطريق الروحي نحو الله. فبحسب التقاليد الصوفية، تنقسم المعرفة الدينية إلى بُعدين، ظاهر وباطن، ولا يتحقق بالثانية إلا من اقترب من الحقيقة الإلهية. وتعني هذه الخاصية في الطريق الصوفي أن المعرفة الناتجة عنها تتحقق عند أولئك الذين اجتازوها، وعملية نقلها يجب أن تتحقق عن طريق توجيه ونموذج الشيخ، وبالتالي فإن العلاقة بين الشيخ والمريد تُمثل الإطار الأساسي التي تتشكل بناءً عليه الذوات والمجتمعات الصوفية وتُعاش من خلاله.
العلاقات التاريخية بين الصوفية والدولة
أَسست الطرق الصوفية منذ نشأتها في القرن الثاني عشر علاقات قوية مع أجهزة الدولة، وذلك عندما كانت مدعومةً بشكل فاعل من قبل السلالات السنية الحاكمة في مواجهتهم ضد الشيعة الإسماعيلية (Trimingham, 1998: 7-10)، وبالرغم من دورها القوي في سياسات تحويل المجتمع الشرق أوسطي إلى الإسلام السني، إلا أن الشبكة الواسعة من الزوايا والروابط التي تتألف منها الطرق الصوفية لم يتم مركزتها والهيمنة عليها تحت سلطةٍ مؤسسية حتى القرن التاسع عشر. ولكن مع البدايات المبكرة للقرن التاسع عشر، قام العثمانيون بإعادة تنظيم الطرق الصوفية داخل بُنى مركزية هرمية، وتمّ استدماجهم ضمن الهياكل الإدارية في المراكز الحضرية الأساسية التابعة للإمبراطورية العثمانية كحلب على سبيل المثال[2] (Geoffroy, 1995: 267)، وبالرغم من هذه المركزة التي قامت بها الدولة العثمانية، إلا أن العديد من الزوايا الصوفية بقيت بمنأى عن هيمنة سلطة شيخ المشايخ، وهو المركز الديني الذي أسسته الدولة العثمانية لتمثيل الزعامة العليا لكل الطرق الصوفية، فعملت هذه الزوايا كمؤسسات اجتماعية مستقلة عن سلطة الدولة.
لكن هذا التوازن بين الاستقلال الداخلي وتدخل الدولة اختلَّ على نحوٍ مفاجئ مع سياسات تأميم الأوقاف الإسلامية، وهو ما أدى إلى سحب الاستقلالية الاقتصادية لجميع المؤسسات الدينية لصالح الأنظمة السياسية المستقلة حديثاً في الدول العربية[3]، وكانت هذه التدابير مقصودةً لوضع التمثلات المؤسسية للإسلام السني تحت سيطرة الدولة (Bottcher, 1997: 18-19).

لكن المنظومة القومية التي تَعتبر الصوفية مجرد بقايا فلكلورية من الماضي ستختفي مع تحديث المجتمع، وعملت في الواقع على إحكام السيطرة على النشاطات الدينية ووضعها تحت قبضة الأجهزة التشريعية والبيروقراطية. وكنتيجة لهذه السياسات تجاه الدين، تمكنت نشاطات الصوفية من الفرار من قبضة النظام السوري الذي عمل على فرض نفسه على النشاطات الدينية، وذلك لسببٍ وجيه، وهو أن النشاط الصوفي لم يكن مُعرَّفاً من قبل السلطة باعتباره نشاطاً دينياً داخل الإسلام السني، وحتى الزوايا القديمة التي وقعت تحت سيطرة النظام باعتبارها محسوبةً على الأوقاف، فقد حظيت بإدارة رسمية ضئيلة ضمن النشاط الصوفي[4]. لقد استمر مشايخ الزوايا الخاضعين لسيطرة الدولة ببقائهم كأبناء للعائلات المستفيدة من نشاط مؤسسة الوقف، حيث تَصرفُ وزارة الأوقاف رواتب لمشايخ الصوفية باعتبارهم أئمة وخطباء، وذلك لأن العديد من هذه الزوايا تخدم كمساجد، ولكن لا تتكفل الوزارة دفع تكاليف أي نشاط يختص به الصوفية مثل الحضرات الأسبوعية، وهو ما يجعل النشاط الصوفي في سوريا دائماً تحت إشرافٍ خاص من المشايخ أو مريديهم.
ديناميات المواجهة: المعارضة الصوفية للنظام السوري
لقد كان للاستقلالية العالية عن سيطرة الدولة التي حققتها الجماعات الصوفية أثرٌ مهم مكّنهم من أداء دورٍ مركزي في مقاومة النظام السلطوي لحزب البعث بعد استيلاءه على السلطة في 1963. وبالرغم من الخلفية العلمانية لنظام حزب البعث[5]، إلا أن الخلفية العلوية[6] لحافظ الأسد - والذي استولى على السلطة من 1970 وحتى 2000[7]- جعلت المسلمين السنة ينظرون إلى النظام باعتباره نظاماً طائفياً. وفي الحقيقة، فقد ترافق صعود الأسد نحو السلطة بزيادةٍ كبيرة في التمثيل العلوي في المناصب الأساسية للحزب والنظام كالجهاز العسكري[8] (Perthes, 1995: 182-183; Van Dam, 1997: 118-135)، وكنتيجة لذلك، تأثرت طبقة التجَّار والصنَّاع والمزارعين التقليديين على نحو سيء إثر التدابير الاقتصادية التي وضعها النظام البعثي – مثل تأميم قطاع الصناعة وإعادة استصلاح الأراضي – فوضعت المقاومة السياسية ضد النظام كهدف لها.
تتميز هذه الطبقة التقليدية بروابط اجتماعية وعائلية قوية مع دوائر مختلفة من المؤسسة الدينية السنية، كجماعة الإخوان المسلمين أو الجماعات الصوفية، وهو ما أتاح لها الاستفادة من مشاعر الاستياء ضد النظام على الصعيدين الديني والسياسي (Batatu, 1988: 112-119; Perthes, 1995: 103-104). أصبحت الجماعات الإسلامية هي القوى الأساسية التي ما تزال نشطة في معارضتها للنظام، وذلك بعدما اتخذ النظام البعثي إجراءات عنيفة ضد المؤسسات السياسية العلمانية. وقد كان غيابُ مساحة سياسية للتواصل سبباً في ميل المعارضة الإسلامية باتجاهٍ أكثر تطرفاً، واتخاذهم لإجراءات عنيفة ضد مسؤولين في الدولة وأعضاء من المجتمع العلوي، وهو ما استتبعه إجراءات أعنف من قِبَل النظام.
إن الحامل الأساسي للشق السياسي والعسكري للمعارضة الإسلامية هم جماعة الإخوان المسلمين، خاصةً بعد توحيد الجماعات الإسلامية المقاتلة ضد النظام تحت راية "الجبهة الإسلامية"[9] (Abd-Allah, 1983: 190-192). لقد كان لمشايخ الصوفية دورٌ جوهري في تجنيد الأعضاء في الجبهة الإسلامية، عن طريق تعبئة مريديهم للالتحاق في صفوف القتال ضد ما اعتبروه تهديداً للمجتمع الإسلامي، أو الأمة. لم يغفل النظام عن مشاركة مشايخ الصوفية ومريديهم في المقاومة المسلحة، فقد عَمِلَ على استهداف مشايخ بارزين من الصوفية وتشتيت تجمعاتهم أحياناً، كما حصل في حالة إعدام شيخ مشايخ الطريقة الرفاعية في حلب (De Jong, 1986: 215-216).
انتشرت سلسلة العنف هذه في أرجاء سوريا، وترافقت مع مجازر حقيقية حصلت في جسر الشغور وحلب، وقد أخذت أوجها في المواجهة المسلحة بين القوات العسكرية التابعة للنظام والكتائب الإسلامية في حماة عام ١٩٨٢، وقد انتهى الصراع بهزيمة الجبهة الإسلامية على يد قوات النظام وبمجازر سقط فيها حوالي الـ ٢٠٠٠٠ مواطن في حماة[10] (Abd-Allah, 1983: 192; Batatu, 1988: 129; Seurat, 1989: 15). لقد أدت مأساة حماة وتداعياتها إلى انحدار قيمة الإسلام السياسي كنموذج للتغيير الاجتماعي والسياسي في سوريا (Abd-Allah, 1983: 194-195)، كما أثرت على الجماعات الصوفية في حماة وحلب التي حمل مشايخها وأتباعهم السلاح والتحقوا مع جماعة الإخوان المسلمين في معركتهم ضد دولةٍ يعتبرونها معادية للإسلام. فقد ألحقت المواجهات العنيفة والهزيمة التي تكبدوها الدمار للزوايا الصوفية، وقتل ونفي الكثير من المشايخ الصوفية، مثل حالة الشيخ عبد القادر عيسى، شيخ الشاذلية في حلب، والذي توفي في منفاه في الأردن (De Jong, 1986: 216; Geoffroy, 1997: 17-18).
ومن نتائج هذا الصراع أيضاً حدوث تغير في حضور الهويات الدينية كإطار للنشاط الاجتماعي، فقد حصل انزياحٌ واضح في الوسط السني من تبني مشروع سياسي واجتماعي صريح يهدف لانتزاع السلطة، إلى تكثيف مظاهر التدين والتقوى الفردية في المشهد العام، مثل زيارة المساجد وارتداء الحجاب كممارسات فردية. يهدف هذا الحراك الاجتماعي - الذي له صلات قوية بالتصوف- أيضا إلى الوصول إلى مجتمعٍ إسلامي سيتشكل كنتيجة لتراكم التربية الأخلاقية للفرد، وذلك بدلاً من تطوير إصلاح اجتماعي يُفرض من دولة إسلامية. وبهذا المعنى، يمكن القول أن حلم "الدولة" تلاشى من الخطاب الإسلامي في سوريا، وهو ما يتطابق مع تشديد الصوفية على واجبات وأخلاق الفرد باعتبارها طريقاً نحو بناء مجتمعٍ إسلامي حقيقي.
بين الاستقطاب والتسوية: الصوفية والدولة بعد أحداث حماة
بعد الكارثة التي خلَّفتها المواجهة مع الجبهة الإسلامية، غَّير النظام البعثي من سياسته تجاه دَور الإسلام في الحياة العامة، متجهاً نحو علاقات استيعابية بدلاً من التدابير العلمانية العدوانية، حيث تمت رعاية بعض أنماط الإسلام على نحو متروٍ، في حين تم كبت بعضها الآخر بقبضة محكمة. ولعل أفضل الأمثلة على هذه السياسة هي الطريق الكفتارية، وهي أحد أفرع الطريقة النقشبندية الصوفية التي يتزعمها مفتي سوريا آنذاك الشيخ أحمد كفتارو ((Habash, 1996. تمتاز الطريقة الكفتارية بحضورٍ قوي بين الطبقات الشعبية والوسطى في دمشق، بالإضافة إلى الطبقة البرجوازية الجديدة التي تشكلت مع الامتيازات الاقتصادية التي اكتسبتها عن طريق العلاقات الشخصية مع جهاز الدولة[11]. تُقدم هذه الطريقة خطاباً وعظياً صوفياً يتركز حول أخلاق الفرد وعلى إضفاء الشرعية على النظام (Bottcher, 1998: 128-138). لكن على الرغم من علاقاتها مع الدولة، إلا أنها حققت نجاحاً محدوداً خارج دمشق، بحكم أنها لا تمتلك الآليات التي تمكنها من التحكم في الزوايا المحلية الدينية أو المُمأسسة، والتي تتبع لطرق أخرى من التصوف، حتى التي تُعتبر فرعاً عن الطريقة النقشبندية.

ومع ذلك، كان لسعة تسامح النظام أمام الممارسات العامة للذوات المسلمة أن أتاح عملية دمج مشايخ الصوفية داخل منظومة الرعاية التي تُقدِّمها الدولة. لا يُعتبر وجود علاقات مع مؤسسات الدولة أمراً مُستبعداً بالنسبة لمشايخ الصوفية، وبشكلٍ أخص داخل جهاز المخابرات، وهي علاقات كان يلفها الغموض عند كل مَن هو داخل وخارج الجماعة التابعة لهم (أي المشايخ)، حيث تتضمن هذه العلاقات تبادل الدعم والمعلومات. وقد انعكست على أشكال مختلفة من الامتيازات الاجتماعية، كأن يُتاح للشيخ المتعاون أن يحصل على موافقة بناء زاوية أو مسجد في أرضٍ من أراضي الدولة. تساهم عملية التبادل هذه في ربط الجماعات الصوفية المحلية بشبكة المحسوبية، وهو ما يتيح لحفنةٍ مختارة من الجماعات أن تحصل على منفذٍ لموارد الدولة، وفي نفس الوقت استخدامهم كداعمين للمشاريع السياسية والاجتماعية للنظام البعثي. يشير فولكر بيرثيز بوضوح أن النظام عزز من تنسيق منظومة الرعاية مع جماعات مختلفة لحاجته لقاعدةٍ اجتماعية تحقق له الدعم والموارد (Perthes, 1995: 188)، ولعل الوصف الذي قدمه لموقع القرية الملحوظ داخل هذه الشبكة ينطبق بسهولة على بعض مشايخ الصوفية، الذين "امتثلوا لمطالب الحكومة والنظام، وشاركوا في البنى المؤسسية التي زودتها الدولة والنظام" (Perthes, 1995: 189). وبحكم الضبابية التي تغلِّف الحدود بين المجتمع والدولة بسبب منظومة الرعاية، يرى بيرثيز وجود علامات تضخم في القبضة الحاكمة التي مكنت جهاز الدولة من الإحاطة في المجتمع المدني.
ولكن هذا ليس صحيحاً بالضرورة في حالة الجماعات الصوفية، لأن فاعلية تأثير الشيخ تعتمد على سعة قدرته على قيادة أتباعه تجاه تحولٍ روحي يأخذهم إلى ما وراء حدود الوجود المحض. وهذا يتطلب منه أن يُظهر أن سلطته أقوى من كل مصادر القوة الدنيوية، بما فيها الدولة، وإذا ما سلَّم الشيخ لمنظومة الرعاية والمحسوبية هذه، فإنه سيُضعف من شرعية سلطة الشيخ في عيون مريديه (بغض النظر عن كل المكاسب المادية والاجتماعية والسياسية التي يمكن تتحقق نتيجة لذلك)، وسيكشف عن الجذور الاجتماعية والسياسية لسلطته. وبالتالي، فإن التسوية التي يُمكن أن تتم بين الشيخ وجهاز الدولة ينبغي أن تحقق الرضا لكلا الطرفين، وعلى الشيخ وأتباعه أن يكونوا متمايزين ومتعالين عن منطق التسليم والخضوع العلني الذي ينتظم ضمن شبكة الرعاية والمحسوبية التي تربط أجزاء مختلفة من المجتمع السوري ضمن الأبنية السلطوية للدولة. هذا يعني أنه يمكن لأي رد فعل من الدولة أن يؤدي إلى كسر هذا التحالف الهش، كأن تفضح علاقات التبعية، أو تتحدى المنزلة الدينية والاجتماعية للشيخ أو جماعته.
وفي الواقع، يمكن في النهاية أن تقوم احتجاجات أو تظاهرات عامة من قِبَل المشايخ وأتباعهم ضد سياسات معينة للدولة، ولكن تنتهي هذه المواجهات في معظم الحالات بتسوية تقوم بها سلطة الدولة. إن السلطة السياسية والاجتماعية للشيخ الصوفي تتصف بالقوة في المناطق الشعبية في حلب، فهو يؤدي دور الزعيم المحلي الذي يطبق القانون بشكل ثابت ومضمون، ويتوسط في حل المشاكل التي تقع ضمن حدود مجتمعاتهم المتدينة. وبالرغم من محدودية وبراغماتية شخصياتهم، تذكر هذه الاحتجاجات الدولة أن حراكاً عاماً يمكن أن يحدث في أي وقت في حال اعتُبِرت سياساتها تهديداً للمجتمع أو – وهو الأفضل - للمجتمع التدين، وهو ما يحدد إمكانيات تدخلها في الحياة الاجتماعية.
الخلاصة
بناء على ما تم تحليله أعلاه، يمكن القول أن الجماعات الصوفية تحظى بدورٍ اجتماعيٍ وسياسيٍ مهم في سوريا المعاصرة، بحكم أنها إحدى المؤسسات الاجتماعية العمومية القليلة التي تستطيع أن تحقق درجة عالية من الاستقلالية عن الدولة. وفي حين استُوعب الكثير من مشايخ الصوفية داخل شبكات منظومة الرعاية، خلقت طبيعة سلطتهم على الجماعات الصوفية حدوداً واضحة أمام تبعيتهم لمنطق النظام، فتحالفهم يمكن أن ينقلب بسهولة إلى تمردٍ مفتوح في حال لم يتم احترام حدود الجماعات الصوفية من قِبَل الدولة. تُظهر هذه النُبذة العامة عن العلاقات بين الجماعات الصوفية والدولة أهمية فهم البنية الداخلية للجماعات الدينية في الشرق الأوسط، إذا ما تم أخذ ديناميَّاتها الاجتماعية والسياسية بعين الاعتبار، وهو ما يجنبنا تصنيفَها بشكلٍ جامد ضمن أحد صور الأنماط السياسية.
قائمة المراجع
Abd-Allah, Umar. The Islamic struggle in Syria. Berkeley: Mizan Press, 1983.