الإمبراطوريّة والسّيادة والصّراعات الجديدة - حوار مع مايكل هاردت
ترجمة: حبيب الحاج سالم
تقديم:
ولد المنظّر الأدبيّ والفيلسوف السياسيّ مايكل هاردت (Michael Hardt) في الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنة 1960.
انتقل من دراسة الهندسة في المرحلة الجامعيّة الأولى إلى دراسة الآداب المقارنة، وتحصّل على درجة الدكتوراه سنة 1990 من جامعة واشنطن.
يدرّس هاردت الأدب واللّغة الإيطاليّة في جامعة دوك (Duke University) في الولايات المتّحدة ويشرف على تحرير المجلة الفصليّة "ساوث أتلنتيك" (South Atlantic Quarterly). يتحدّث هاردت اللغة الفرنسيّة وكذلك الإيطاليّة والإسبانيّة إلى جانب لغته الأمّ الإنكليزيّة. تعرّف في نهاية عقد الثمانينات على الفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري (Antonio Negri) وكتب بالاشتراك معه أشهر أعماله. تشمل الأعمال المشتركة بينهما ثلاثيّة الإمبراطوريّة1 والجمهور2 والمشتركيّة3 بالإضافة إلى كتاب إعلان4 الذي اعتبرا فيه انتفاضات وثورات سنتي 2011 و2012 دورة جديدة من الصّراع تستكشف أشكالاً جديدة من الديمقراطيّة.
أُجري هذا الحوار مع مايكل هاردت في إطار حضوره احتفال جامعة البوسفور بتركيا بذكرى تأسيسها المائة والخمسون سنة 2015. وتناول أفكاراً أساسيّة لمايكل هاردت وتصوّراته عن الصّراعات الأخيرة، مثل أحداث منتزه غزّي5 في تركيا، والثورتان التونسيّة والمصريّة، وحركات مثل "احتلّوا وول ستريت" والحركات الاجتماعيّة في أمريكا اللاتينيّة.
نصّ الحوار:
سننظّم حوارنا حول بعض المفاهيم والأفكار المفتاحيّة التي قُمتَ بإنتاجها وصياغتها في سلسلة من الكتب بالاشتراك مع أنطونيو نيغري (Antonio Negri). ستكون البداية حسب التسلسل الزمنيّ بكتاب الإمبراطوريّة (Empire). لقد مرّ بعض الوقت منذ نشرك هذا الكتاب سنة 2000، لكن لديّ انطباع أنّك ونيغري في كتابكما الأحدث إعلان (Declaration) قمتما بطريقة ما بالعودة إليه. توجد على الأقلّ مقولات تتّصل على ما أرى بنقدكما للسّيادة السياسيّة أو بتحليلكما لإعادة تصميم السّيادة السياسيّة الذي بدأتما مفصلته في كتاب الإمبراطوريّة. من هنا سؤالي الأوّل: إلى أيّ حدّ ينبني المسار الذي تصفانه في كتاب إعلان، مثل ظهور المدين (indebted) والخاضع للإعلام (mediatized) والخاضع للأمن (securitized) والذاتيّة الممثَّلَة (represented subjectivity)، على إعادة تفكيركما في القوّة السياديّة في كتاب الإمبراطوريّة؟ وإلى أيّ حدّ ترتبط هذه المفاهيم بالتطوّرات والأبعاد الجديدة لنشاطات القوّة السياديّة؟
مايكل هاردت: ربّما بدت بعض أوجه مفهوم الإمبراطوريّة خلافيّة لبعض الأصناف من القرّاء عند صدور الكتاب، لكنّها تبدو لي الآن جزءاً من الحسّ المشترك. لقد بدأنا المشروع بفكرة مفادها أنّ مخالفة الأمركة، أي مخالفة الولايات المتّحدة، لم تعد كافية كأساس لسياسات اليسار. لا يعني ذلك أنّ الولايات المتّحدة تغيّرت نحو الأحسن، بل يعنى أنّها لم تعد قادرة على السّيطرة الإمبرياليّة، ولم تعد قادرة بمفردها على إدارة الشّؤون العالميّة. هذا طبعاً لا يعني أنّ الولايات المتّحدة لم تعد دولة-أمّة مهمّة أو أنّ جيشها لم يعد قويّاً، بل يعني أنّها لم تعد قادرة على تشكيل البيئة العالميّة، وذلك ما أراد رامسفيلد فعله، وما تخيّلته إدارة بوش. لكن بعد فشلها أصبح من الواضح أنّ الولايات المتّحدة كدولة-أمّة ليست العامل المحدّد في الشّؤون العالميّة بل هي عاملُ من بين عواملَ أخرى.
توجد طريقة ثانية أعقد على المستوى المفاهيميّ لصياغة المسألة، وهي التفكير في دور الدول-الأمم والسّيادة الوطنيّة بمعنى أعمّ. والتفكير في اليسار هو أيضاً جزء ممّا ننطلق منه. وبنفس الطريقة التي فكّرنا بها بخصوص أنّ معاداة الأمركة لم تعد أساساً مناسباً لليسار، لا يبدو لنا أيضاً أنّ هدف اليسار هو السّيادة. فنحن نريد سياسة ضدّ السّيادة. لذلك، تبدو لنا اليوم مسارات التحرير الوطنيّ التي مثّلت أطر عمل مهمّة للحركات الاجتماعيّة ولتشكيلات اليسار لعقود غير كافية، وهذا ما يستدعي اليوم جدالاً أو نقاشاً داخل حقل العلاقات الدوليّة. سيقول فريق أوّل أنّنا في عصر العولمة، ولذلك لم تعد الدول-الأمم مهمّة. وسيقول فريق ثانٍ أنّها ما تزال مهمّة، وبذلك ينفون وجود عولمة. لقد اعتمدنا مفهوم الإمبراطوريّة وحاولنا العمل عليه، وبدا لنا من الصعب في هذا الميدان القول بأنّ الدّول وخاصة الدّول القويّة ما تزال مهمّة، لكنّ تلك الدول شهدت نقلة نوعيّة جعلتها تعمل ضمن بنية أوسع. لقد فهمنا الإمبراطوريّة بتلك الطريقة، أي كبنية واسعة ما تزال السّيادات الوطنيّة تضطلع بدور مهمّ ضمنها، وإن كان بأحجام مختلفة بالطّبع، لكن الدّولة-الأمّة كوحدة سياديّة أصبحت مكيّفة من قبل النظام العالميّ بطريقة أكبر ممّا كانت عليه سابقاً.
يوجد في تقديري مكوّنان متعلّقان بالسّؤال حول السّيادة. الأوّل أنّ السّيادات الوطنيّة غدت مؤهّلة للعمل ضمن بنية أوسع. والثاني أنه لا يجب على اليسار في نظرنا أن يصبو إلى السّيادة. فالسّيادة ليست الميدان الوحيد للسّياسة. لقد فكّر كثير من النّاس في ذلك سابقاً، أي في كيفيّة تفكّر مسألة مثل الاستقلاليّة الديمقراطيّة خارج إطار عمل السّيادة، بحيث تصبح إحدى طرق صياغة ذاك المشروع لليسار، ولم أجد إجابة نهائيّة إلى حدّ الآن.
في علاقة بأطروحاتكم في كتاب "إعلان"، توجد في ذهني صياغة تقول: "هذا طور جديد للنيوليبراليّة"، وذلك ما حاولت تضمينه في سؤالي إليك.
مايكل هاردت: هذا سؤال مهمّ؛ لقد شعرت نوعاً ما بالحاجة إلى العودة وتناول المسائل الأكبر.
أظنّ أنّ هذا يمنحنا سبيلاً أخرى لربط المقولات المستخدمة في كتاب "الإمبراطوريّة" بمحاضرتك التي ألقيتها في جامعة البوسفور بعنوان "أين ذهب جميع القادة؟". قمت في المحاضرة بالتمييز بين دورة الصّراع الجديدة الحاصلة في سنوات 2011-2012 والتي وصفتها بأنّها "متجذّرة في المجال"، وبين الدورات السابقة التي وصفتها بـ"الأحداث المترحّلة" في احتجاجات سياتل (Seattle) سنة 1999 وجنوة (Genoa) سنة 2001. هل يمكننا التفكير، بناءً على هذا التمييز، في الدورة الجديدة من الصّراعات بصفتها توفّر أيضاً نوعاً مختلفاً من مساءلة شكل الدّولة-الأمّة؟ حيث يطرح كتاب الإمبراطوريّة أنّه على الدولة-الأمّة العمل في سياق أوسع قد يُفضي إلى تفتّت السّيادة، فهل يمكننا أيضاً القول بتفتّت السّيادة "من الأسفل"، أي من خلال هذه الصّراعات؟ أو، بعبارة أخرى، إلى أيّ مدى تُعتبر هذه الصّراعات صراعات ضدّ الدّولة-الأمّة؟
مايكل هاردت: أرى أنّ كلا دورتي الصّراع متكاملتين في بعض الأوجه، لكن يجب عليهما التعلّم من بعضهما. لقد تناول الكثير من النقد الواضح والمحقّ لما سُمّي حينها حركة العدالة العالميّة أو حركة العولمة البديلة، خاصيّتها المترحّلة، أي الانتقال من احتجاج على انعقاد قمّة إلى احتجاج آخر أو الالتقاء في بورتو أليغري (Porto Allegre) في البرازيل أو عقد المنتدى الاجتماعيّ العالميّ مرّة كل سنة في أماكن مختلفة. كانت إحدى الأهداف خلال تلك الحركة منذ عشر سنوات هي بالتدقيق تحديد طبيعة العولمة. كانت تلك مهمّتها المباشرة. في الواقع، كانت الحركة مهمّة جدّاً في كشف مصادر القوّة المسيطرة الجديدة في النظام العالميّ. لقد رأيت هذا الأمر كنوع من تجربة لإنارة نقاط اللّقاء في تلك الشبكة، حيث كنّا، على سبيل المثال، نُحدّد طبيعة منظّمة التجارة العالميّة، ثمّ نُحدّد في الأسبوع الموالي طبيعة البنك العالميّ وصندوق النقد الدوليّ، لننتقل بعدها إلى تحديد طبيعة اجتماع مجموعة الثمانية. الانتقال من قمّة إلى أخرى هو نوع من البيداغوجيا في مكوّنات النّظام العالميّ. لكن الجميع كان مدركاً حينها مدى افتقار المشروع العالميّ إلى نوع من الالتزام الماديّ مع المسائل المحليّة.
يمكنني من هذا المنظور القول إنّ دورة الصّراعات منذ سنة 2011، وفي بعض النواحي صراعات سنة 2013، متموقعة بشدّة في المحلّي، بحيث لم تكن المدينة محور اهتمام الاعتصام، بل حتى أحياء سكنيّة بعينها. وهذا ما تشهد عليه فترة ما بعد أحداث غِزّي (ساحة تقسيم)، فقد حاولت تشكيلات مبنيّة على الأحياء التفاعل مع مشاريع مخصوصة جدّاً. وتقبع المخاطرة في دورة الصّراعات الحاليّة في فقدان الارتباط مع النظرة العالميّة، ولعلّ من أجدى طرق التعامل مع ذلك هو تحديد الروابط بين مختلف الحالات الوطنيّة. فإذا أمكن على سبيل المثال ملاحظة وجود أحداث مشابهة إلى حدّ ما بين الصّراعات شديدة المحليّة في إسطنبول أو أنقرة وبين الصّراعات الموجودة في ساو باولو وريو دي جانيرو، فإنّ أصداء ذلك يمكنها أن تساعد تمفصل المحلّي مع بنية أوسع.
يبدو أيضاً أنّ هناك حاجة إلى مقاربة بيداغوجيّة مغايرة من ناحية ترجمة ونقل تجربة المحليّة إلى أمكنة أخرى.
مايكل هاردت: أظنّ أنّ ذلك صائب. توجد تجارب ومجموعات صغيرة داخل كلّ هذه الاحتجاجات ترى وتسعى لتوسعة تلك الترابطات، لكنها تبقى صغيرة نسبيّاً. على سبيل المثال، توجد مجموعة سياسيّة من نيويورك، أغلب أعضائها فنّانون، قصدت تونس في صيف سنة 2011 تحت وقع الانتفاضات ضدّ بن عليّ في وقت سابق من ذات السنة، وحين عادوا من تونس، شكّلت تلك التجربة أساساً لبداية حركة "احتلّوا وول ستريت". لقد أقاموا بالفعل ذاك النوع من الترابط، لكنّه لم يشمل كامل الحركة.
توجد إذن مشكلة على مستوى النطاق؟
مايكل هاردت: نعم أظنّ أنّه توجد مشكلة نطاق. إذا ما وضعنا الحركتان في مقام المقارنة، سيظهر لنا مباشرة أنّ إحداهما أحرزت اعترافاً على المستوى العالميّ، لكنّها تفتقد إلى تجذّر محليّ؛ فيما تقع الأخرى على النقيض، حيث حظيت بالمحليّة لكنّها وجدت صعوبة في التمفصل مع الأطر العالميّة، ومع أشكال الاضطهاد العالميّة، مثل ربط أزمة الرّهن العقاريّ في إسبانيا مع الصعيد الأوروبّي، أو حتّى العالميّ. وبالتّالي، فأن تكون عالقاً ضمن مجال وطنيّ أو حتّى مجال مدينيّ يبدو لي ضُعفاً. أظنّ أنّ فريدريك جيمسون6 (Fredric Jameson) كان سيطلق على هذه الحالة اسم "تناقض القوانين" (antinomy) بين الحركتين، أي أنّهما تحملان تركيبتين واضحتي التناقض. ما أنشده هو حلّ هذا التناقض.
هل يمكن النّظر أيضاً من زاوية أخرى إلى ما تصفه على أنّه ضعف كنقطة قوّة لهذه الحركات - أي أنّها لا تريد الاسراع مباشرة في استخدام الإواليّات (mechanisms) المؤسسيّة للدّولة-الأمّة في التفاعل مع الأطر العالميّة؟ إذ يبدو الانخراط العالميّ متجذّراً بقوّةً في شكل الدّولة-الأمّة بحيث يمسي ابتداع مؤسّسات بديلة أحد أهمّ التحديّات المواجهة للصّراعات الجديدة. هل هذا منطقيّ؟
مايكل هاردت: يبدو لي أنّه توجد امكانيّات عديدة على المستوى الأوروبيّ. من المهمّ أوّلاً الاعتراف أنّه لا يمكن مواجهة أزمة الديون في أوروبا في إطار دولة-أمّة واحدة. لن يثمر القيام بذلك على مستوى وطنيّ في اليونان أو إسبانيا أو إيطاليا إلى نتائج. لكن إذا أمكن التعامل مع مسألة الدَين على مستوى أوروبيّ، فإنّ ذلك سيمثّل اجابة أقوى، وقد وُجدت جهود في هذا الاتّجاه. التنظّم على مستوى أوروبّي صعب جدّاً كما قلت أنتِ، أي تنظَّم مثلاً حركات احتجاجيّة من ألمانيا مرتبطة باليونان، فإحدى أكبر خيبات النُّشطاء في اليونان وإسبانيا هو شعورهم بضعف الارتباط بالنُّشطاء في شمال القارّة.
ولم ذلك؟
مايكل هاردت: أظنّ أنّكِ محقّة في أنّ الصّعيد الوطنيّ يمثّل عائقاً، إنّه حجر عثرة. أرى أنّه يوجد في أوساط اليسار الراديكالي في ألمانيا نوع من التضامن مع جنوب القارّة، لكنّني بدأت أكره كلمة تضامن التي أفسّرها دائماً على أنّها تعاطف مع من يعاني. المطلوب هو الاعتراف بأنّ مشاكلهم متشابكة أو متلازمة. يمكن القول إنّ اليونان تمثّل بشكل من الأشكال كلّ مستقبلنا، قد يكون هناك اعتراف فردي لكن أعتقد أنه يجب أن يتجاوز الأمر ذلك الحدّ.
غير أنه توجد جهود ولها نوع من التأثير. مثلاً، يوجّه في كلّ شهر جوان/حزيران نداء لمظاهرة أوروبيّة ضدّ البنك المركزيّ الأوروبيّ في فرانكفورت ويطلقون على ذلك اسم إعاقة-احتلال (blockoccupy) أي منع أو إعاقة البنك المركزي الأوروبّي. هذا النوع من المظاهرات مشابه جدّاً لما كان يحصل قبل عشر سنوات. ربّما يقود ذلك إلى نوع من الوعي بدور البنك المركزي الأوروبّي في جميع تلك البلدان. لكن نلاحظ أنّ رأس المال يحذق التنظّم على الصعيدين الأوروبّي والعالميّ، فرأس المال لا يجد الدّولة-الأمّة حجر عثرة في طريقه، على عكس الحركات الاجتماعيّة والمشاريع البديلة.
توجد إشارة في كتاب "إعلان" إلى فكرة الفيدراليّة. لهذه الفكرة صدى عندي، لأنّه توجد محاولة لإعادة النّظر في الفيدراليّة كمستوى علائقيّ غير محليّ وغير تابع للدّولة-الأمّة بل جهويّ، لكنّه يُخفي أيضاً طريقة تفكير حول التّرابط بين الجهات. لا أعرف إن كان هذا مرتبطاً بطريقة استصلاحكما أنت ونيغري للفيدراليّة، أي الطريقة التي تحاولان بها بناء مفهوم جديد من خلال معاني تاريخيّة عديدة أو استخدامات للفيدراليّة.
مايكل هاردت: أظنّ أنّ ذلك بالضّبط ما نحاول القيام به. تحمل الفيدراليّة مثل العديد من المفاهيم الأخرى في معجمنا السياسيّ معنى محدوداً جدّاً يعمل ضمن نموذج السّيادة الوطنيّة. لذا يبدو لنا من النّافع العودة إلى تاريخ المفهوم وتحويله للإشارة إلى أشكال حكم ذاتي بإمكانها العمل سويّاً في مسارات صناعة القرار. نحن نفكّر في المفهوم خارج إطار السّيادة، لكنّه يظلّ مفهوماً من ضمن مفاهيم أخرى لفكرنا السياسيّ الحديث التي ننجذب إليها في لبّها ونتصدى لمعانيها المقبولة حاليّاً. محاولة استصلاح المعنى الممكن للفيدراليّة هي مثل محاولة استصلاح المعنى الممكن للديمقراطيّة، وكلاهما جزء من مشروعنا. أنتِ محقّة في تفسير انجذابنا إلى مفهوم الفيدراليّة، ذلك لأنّه إواليّة لشبكة متمدّدة ومتجذّرة في الاستقلاليّة المحليّة وصناعة القرار.
سياسة الجمهور والشعبويّة والحبّ
أريد المرور إلى فكرة الجمهور7 كفكرة مفتاحيّة جدّدتها أنت ونيغري في سبيل تخيّل ميدان سياسة جديد لليسار. لقد كنتَ سواء في كتابك "المشتركيّة" (Commonwealth) أو في محاضرتك في جامعة البوسفور حذراً في التمييز بين الجمهور والشّعب، وميّزت بموازاة ذلك بين سياسة الجمهور وسياسة الشعبويّة. ما هي الطريقة التي تميّز بها بين هذين الشكلين من السّياسة، وما هي المخاطر المترتّبة عن هذا التمييز؟
مايكل هاردت: تتعلق المسألة الأساسيّة بالتعدديّة. حيث يُستخدم المفهوم السياسيّ للشعب أساساً لتمثيل ذات موحَّدة إن لم تكن متجانسة. لذلك، فإنّ استخدام عبارة شعب قومي، الشعب التركيّ على سبيل المثال، هو في أساسه تمثيل (representation) للذاتيّة المسيطرة، وهو يقصي أو يكسف الذاتيّات المُلحقة من التمثيل. بمعنى آخر، يُوحّد ذلك التّعدديّة تحت وجه واحد. ويبدو استعمال مفهوم الشّعب في الخطاب الجمهوريّ في تركيا نموذجاً مثاليّاً لذلك. بهذا المعنى يبدو مفهوم الجمهور جاذباً لنا لأنّه يُسمّي حقيقة التعدديّات التي يخفيها مفهوم الشّعب. بهذا يغدو أوّل تعليق ممكن عند سماع عبارة "الشّعب التركي" أنّه في الواقع عدّة شعوب، ويمكن مثلاً تمييزه على أساس الطائفة الدينيّة، أو الإثنيّة، أو الاختلاف اللغويّ، كما هو ممكن أيضاً عبر التقسيم الجندريّ، لأنّ تمثيلات الشعوب القوميّة كانت دائماً ذات وجه ذكوريّ. كما يمكن للجنسانيّة أيضاَ أن تكون مؤشّراً على ذلك. يوجد العديد من الشعوب المختلفة، لكن من المهمّ أن نعترف بالتّعدديّة حتّى داخل كلّ منها.

مايكل هاردت في حلقة حوارية مع مجموعة من الطلاب في جامعة بوغازيتشي التركية
الشّعب الكرديّ أيضاً ليس كتلة واحدة. فالتعدديّة تسلك طريقها حتّى القاع. لذلك، فإنّ أوّل افتراضاتي أنّ التّعدديّة ضدّ الشّعب، أو بدل مفهوم الشّعب، هي اعتراف بالتعدّد. في الصّراع البوليفي قبل 10 أعوام، مثلاً، أي قبل إسقاط الحكومة النيوليبراليّة وانتخاب الحكومة اليساريّة، استخدمت تلك الحركات مصطلح الجمهور باستقلاليّة تامّة عن تنظيرنا أنا وأنطونيو نيغري، السّبب الرئيس لذلك هو الاعتراف بالتّعدد الإثنيّ للمنخرطين في الصّراع، حيث توجد 26 هويّة محلّية في بوليفيا إضافة إلى السّكان من غير الأصول المحليّة. لقد أرادوا التصريح بأنّهم لا يصارعون كشعب بوليفي كما لو كان شيئاً واحداً، بل كجمهور ذي هويّات مختلفة. هذا أحد جوانب المسألة.
أقدّر أنّ السؤال الثاني هو هل من الممكن العمل سياسيّاً كجمهور أم يجب أن يتم ذلك تحت هيئة موحِّدة. أظنّ أنّ نظريّات الشعبويّة تفترض أنّ التّوحيد أو المركزة يتطلّبان فعلاً سياسيّاً. أنا أفكّر الآن في أرنستو لاكلاو (Ernesto Laclau) وبصفة خاصة كتابه حول العقل الشعبوي8. يبدأ لاكلاو تحليله انطلاقاً من أنّ الحقل الاجتماعيّ هو تعدّديّة مفتوحة، أي أنّه لا توجد وحدة مسبقاً. لكنه ينصّ في ما بعد على أنّ الحراك السياسيّ يستوجب دائماً مسار تماهٍ تحت دالّ مهيمن، أي التّوحيد تحت هيئة سياديّة مثل زعيم أو حزب. ننطلق أنا وأنطونيو نيغري مع مفهوم الجمهور من التّحليل نفسه، أي أنّ الحقل الاجتماعيّ متباين (heterogeneous) جذريّاً، لكنّنا نقوم بإسقاط (projection)، نريد الحصول على شكل تنظيم سياسيّ لا يتطلّب سلطة مهيمنة لكي يخوض السّياسة، بل تعدّداً في العلاقات بين المنخرطين في الصّراع لا يتطلّب سلطة سياديّة كنقطة توحيد وتماهٍ. يبدو لي في تحليل أرنستو (واعتماده فرويد Sigmund Freud) وجود فرضيّة حول الطبيعة البشريّة؛ هي حاجتنا إلى الأب كقائد أو كحزب. بالنسبة لي، إذا كانت تلك هي الطبيعة البشريّة، فأنا لا أريد أيّ علاقة بالبشر. لكنّني لا اعتقد أنّها كذلك، أو من الأفضل القول إنّني لا أعتقد في أنّ الطبيعة البشريّة ثابتة. أريد طبيعة بشريّة قادرة على تشكيل روابط - وعلى الفعل سياسيّاً - دون أبٍ.
يتّصل ذلك بنقدك مكانة القادة، نقدٌ تصنّفه كتوجّه موجود ضمن دورة الحركات الجديدة، وقد ذكرت أنّه توجّه سابق لهذه الحركات، بوصفه نقداً داخليّاً لليسار بدأ منذ زمن بعيد.
مايكل هاردت: أظنّ أنّ ذلك صائب؛ فقد ابتعدت عديد التشكيلات اليساريّة الصغيرة عن أشكال السّلطة اليساريّة. وقد غدَا ذلك في تقديري يشمل موقف الأغلبيّة داخل الحركات الاجتماعيّة في عدّة مواضع من العالم. ومثّل ميدان التحرير بشكل ما لحظة إدراك معمّم بهذا النوع من الحركات الاجتماعيّة المعاصرة. ذلك الشكل، أو ذلك الطموح في الحركات يبدو لي محلّ إدراك واسع الآن. الأمر غير الجليّ هو إمكانيّة أن يكون ذلك مستداماً وفعّالاً كشكل تنظّم سياسيّ.
حتّى لو لم ترد، كما قلت أنت، ربط القيادة بشكل معيّن للطبيعة البشريّة، أو بحاجة نفسيّة معيّنة، فإنّه تُوجد وجدانيّة سياسيّة محدّدة تتطلّب إعادة إنتاج العلاقة بالقائد. كيف يمكننا تفسير جاذبيّة القائد، دون الوقوع في تفسير نفسي (psychologizing)؟
مايكل هادرت: ربّما يمكننا ممارسة التّحليل النفسيّ (psychologize) بصيغة بديلة. وذلك بالضبط هو الميدان الذي سعى جيل دولوز (Gilles Deleuze) وفيليكس غاتاري (Félix Guattari) إلى تطويره بعد أحداث ماي 1968: أي سياسة مضادّة للعائلويّة (familialism). لقد كانا ضدّ العائلة، لكن ليس فقط في أشكالها الصغرى للأمّ والأب والأنا. بل كذلك ضدّ العائلة في كلّ التّشكيلات السياسيّة الممتدّة. يقول فرويد إنّه في سبيل أن نكون إخوة، نحتاج إلى أب في تشكيلة اجتماعيّة، أو بشكل أوسع في مجموعة سياسيّة. لا يريد دولوز وغاتاري قتل الأب فحسب - هما يريدان تجاهل الأب، بدل قتل أي إنسان - لكنهما لا يريدان حتّى أن يكونا إخوة. أظنّ أنّ التخيّل الكامل للرّوابط الاجتماعيّة وللتنظّم السياسيّ الذي يعمل بناءً على منطق عائليّ هو ما يحاولان الابتعاد عنه. ويقع ذلك في موازاة ما نحاول تفكّره فيما يتعلّق بالجمهور.
إذن، الجمهور هو أيضاً نقد أساسيّ جدّاً للعائلة.
مايكل هاردت: نعم، هو كذلك نقد أساسيّ للعائلة، وللعائلويّة. هذا هو المصطلح الذي أراد دولوز وغاتاري استخدامه في سياق أشمل. وإذا ما تكلّما الآن، فقد يقولان شيئاً مثل "أليس من المثير للاشمئزاز أنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن للناس التعبير بها عن الروابط التي تجمعهم هي المصطلحات العائليّة" مثل "أحبّك مثل أخٍ" أو "نحن أخوات نُناضل سويّة". لقد أرادا التخلّص من التخيّل الكامل للرّوابط العائليّة كميدان حصري للتّرابط. لكنّ مفهوماً مثل الجمهور ليس ناجزاً، وهو ما يعجبني في مثل هذه المفاهيم. إنه مفهوم يتحوّل مع المستجدّات، هذه هي الطريقة التي نعالجه بها أنا وأنطونيو. والحركات الاجتماعيّة المختلفة تفعل أشياء لم تعد الآن محلّ شكّ، فهي تجعلها واضحة، لكن أشياء أخرى تتحوّل إلى مشكلات. يعجبني هذا النوع من المفاهيم، فليس مهمّاً العودة إلى ما قلناه حوله في البداية، بل هو مفهوم متغيّر مع الأزمنة.
تقول في كتاب المشتركيّة (Commonwealth) - وقد قرأت مؤخّراً كتابك إجراءات الحبّ9 - إنّك تحاول تطوير مفهوم سياسي للحبّ كلقاء عفوي (encounter)، وتُحيل على إشارة دولوز لكتاب مارسيل بروست (Marcel Proust) بحثاً عن الزمن المفقود10 وكتابات دولوز وغاتاري حول لقاء زهرة الأوركيد والدبّور. أنا مهتمّة بصورة أعمّ بسؤالك حول سبب طرحك سؤال الحبّ، لكن قبل ذلك أريد أن أسأل عمّا إذا كان التّفكير حول سياسات الجمهور هو ما دفعك ونيغري في اتّجاه فكرة الحبّ؟
كما لديّ سؤال آخر حول العلاقة بين أنطولوجيا العمل كما تنظّر لها أنت، وسياسات الحبّ. ألا يُغيّر نقاش الحبّ الطريقة التي نفكّر بها في العمل غير المادّي؟ عندما تتحدّث عن العمل غير المادي تتناول بُعده التكوينيّ الوجدانيّ، لكن أيضاً بُعده المؤنّث (feminized). إذا بقينا في أنطولوجيا العمل كما تُنظّر لها، فإنّ قصّة زهرة الأوركيد والدبّور تصبح تشذيذاً (queering) للعمل أكثر من تأنيثه (feminization). ألا يضيف موضوع الحبّ بُعداً آخر لعملك السابق حول ربط الجمهور بالعمل؟
مايكل هاردت: دعيني أبدأ بالمكوّن التحليليّ. من ميزات طرح الحبّ كمفهوم سياسيّ هو تعريف أو توضيح مسألة طالما بدت لنا واضحة بطبيعتها، وهي أنّ الصّراع السياسيّ يتعلّق بالعقلانيّة والمصلحة، وخالٍ من المشاعر والعواطف. يُجبرك طرح الحبّ في ميدان السّياسة في حدّ ذاته على خلط سؤال المشاعر والعواطف مع أيّ تصوّر للعقل والمصلحة. لا يجب علينا محاولة إقصاء العواطف والمشاعر من السّياسة وتركيز طاقاتنا حول المصلحة والمصلحة الطبقيّة والمصلحة الهوويّة أو حتى العقلانيّة، يجب علينا تعريف السّياسة بهذا الشّكل. هذا التعريف واضح في الحركات الاجتماعيّة مثل اعتصام غزّي أين لعبت المشاعر والعواطف دوراً مهمّاً أو كانت بالأحرى في المقدّمة.
توجد ميزة تحليليّة أخرى للتفكير في الحبّ كمفهوم سياسيّ، وهي نجاعته كإطار عمل للتعرّف على طبيعة سلاسل كاملة من الحركات السياسيّة اليمينيّة. فهو ناجع مثلاً لتأطير أو بدء دراسة حول الفاشيّة، ليس كسؤال كراهيّة، أو تقديم الآخر ككبش فداء، أو تسمية عدوّ، بل كحركة تتمحور حول الحبّ. حينها تتعرّف على شكل مريع من الحبّ آخذ في الانتشار، وهو حبّ الشبيه، أو حتى إنتاج الشبيه. فحركة تفوّق العرق الأبيض تمثّل حبّ البياض عوضاً عن الخوف من السواد أو شيطنته.
يدفعك ذلك أيضاً للقول إنّه إذا أردت التفكير في الحبّ كمفهوم سياسيّ للتحرير، فإنّه يجب يكون نوعاً آخر من الحبّ عدا ذاك الموظّف في الحركات اليمينيّة والفاشيّة. يجب ألاّ يكون حبّ المشابه أو حبّ الـ"نحن" كهويّة، بل حبّاً يؤسّس نفسه على التعدديّة. يوجد العديد من طرق تشكيل هذا النوع من الحبّ أجدها جاذبة لي. على سبيل المثال، ما فعله نيشه (Friedrich Nietzsche) حين أخذ زرادشت يبشّر بحبّ الأبعدين. فزرادشت يريد الهروب من مفهوم حبّ الجار لأنّه يبعث على التشابه والهويّة.
ربّما من الأجدى التفكير في حبّ الاختلاف أو التعدديّة، وإذا استطعت التفكير في الجار على هذا الوجه، فإنّ حبّ الجار ما زال له معنى. التفكير في الجار ليس بمعنى أنّه الأكثر شبهاً بك أو الأقرب إليك، بل بمعنى أنّه الغريب الذي يعيش معك.
هل للحبّ بهذا المعنى أثر في فكّ التماهي (disidentification)؟
مايكل هاردت: نعم، صحيح. ولكي نعود إلى ما كنت تقولين، فإنّ الطريقة التي تعاملنا بها أن وأنطونيو مع نظريّة الشّذوذ (queer theory) تمثّل إطار عمل مهمّ للتفكير في الجمهور. يذكّرني ما تقولينه باستعمال خوسي مونوز11 (José Muñoz) لفكّ التماهي كأرضيّة سياسيّة، عوض التماهي. أظنّ أنّ ذلك محرّك أساسيّ لنظريّة الشذوذ التي تهمّنا، أي المحرّك المضادّ للهويّة الذي يعمل من خلال فكّ التماهي، بل وتأسيس الجماعة (community) من خلال الاختلاف، وليس من خلال التشابه أو من خلال الهويّات.
يوجد أيضاً سؤال تطرحه أنت حول طريقة استدامة هذا النوع من مسار فكّ التماهي، لأن الحبّ بمعنى من المعاني، هو نوع من المفارقة، فهو لقاء عفوي تمزيقيّ وإبداعيّ في ذات الوقت، لكن كيف يمكن استدامة هذا المسار الوجدانيّ المُفارق؟ وقد أحَلْتَ إلى إشارة جان جينيه12 (Jean Genet) للاحتفالات، وأنا أتساءل هنا عن طبيعة الإلهام السياسيّ الذي توفّره الاحتفالات على مستوى مأسسة الحبّ؟
إذا أراد المرء سَبْك مفهوم سياسي للحبّ بناءً على التعدديّة، فإنّ ذلك سيتطلّب نوعاً مختلفاً من المأسسة، غير قائمة على الهويّة. من بين الأشياء التي عملنا عليها أنا وأنطونيو في عدّة مواضع، مفهوم المؤسّسة المشيّدة على التضادّ أو على النزاع، أو إن شئنا على الاختلاف، لكن النّاس يفكّرون عادة في المؤسّسة على أنّها قائمة على بعض الأسس الموحِّدة. بدل ذلك نحن مهتمّان بخلق مؤسّسات - أي روابط وممارسات مستقرّة - مشيّدة على التباين أو حتّى على النزاع. أنت محقّة بخصوص أنّني مُلْهَم بفكرة جينيه حول لقاءات الحبّ العفويّة. فعندما تعيش تجربة حبّ، لا يكون الهدف تقديرها فحسب، بل أيضاً إعادتها، أو جعلها تستمرّ. روايات جان جينيه هي نوع من الإجراءات الإلهيّة، أو خلق للعادات، هي إلهيّة بالنسبة إليه لأنّها تخلق شيئاً جديداً. لقاءات الحبّ العفويّة لا تمنحه تجارب جديدة فقط، بل أيضاً وجوداَ جديداَ. هناك نوع من التجديد الأنطولوجي يجده المرء في لقاءات الحبّ العفويّة. لذلك نجد الاحتفالات في رواياته بمثابة نوع من الممارسات الشعائريّة التي تسمح لنا بالاستمرار والإعادة.
فلنطبّق ذلك على أحداث غزّي لأنّ العديد من الناس عاشوا تجربة التخييم هناك كتجربة حبّ، كلقاء عفوي غيّر حياتهم. أحد الأشياء المهمّة في التعامل مع الحبّ كمفهوم سياسيّ هو الحبّ كتجربة تفقد فيها نفسك. الحبّ تجربة تحويليّة. إنه ليس مجرّد اعتراف بالتضامن مع الآخرين يبقيك كما أنت، بل هو يؤسّس تحالفاً أو شيئاً من هذا القبيل. في الحبّ تفقد نفسك، وتصير شيئاً مختلفاً. في كلّ الاعتصامات، خاصّة في غزّي، كان هناك تعرّف على طبيعة الحبّ التحويليّة، لكن لا يمكنك جعل ذلك يتكرّر. لا يمكنك القول في يوم آخر: لنذهب كلّنا إلى هناك ونجعل ذلك يتكرّر. إحدى الطرق للتكرار هي خلق العادات، وذلك ما أعنيه بالشّعائر أو الاحتفالات، التي يمكنها إطالة أو تكرار ذاك النوع من اللّقاءات العفويّة التي تجعلنا أكثر قوّة. أترين الآن أنّ ذلك لا يبدو عاطفيّاً البتّة؟
من الأشياء التي نعمل عليها أنا وأنطونيو باستمرار، لكنّنا ندرك أنّه سوف يُساء فهمنا، تقاطُع هذه الخطابات حول الحبّ مع الخطابات الدينيّة. لأنّه في كلّ السياقات الدينيّة، على الأقلّ تلك التي أعرفها، دائماً ما يكون الحبّ مفهوماً أساسيّاً للجماعة. أشعر أنّه لا يجب على المرء أن يبقى علمانيّاً بالمعنى الحصريّ تجاه هذه التقاليد الدينيّة ومفاهيمها واستدلالاتها اللاهوتيّة، إذ يمكن للمرء العمل من خلال التقاليد اللاهوتيّة دون الذوبان فيها. لذلك عندما نكتب أنا وأنطونيو حول الحبّ، يقول بعض القُرّاء إنّنا أصبحنا عاطفيّين، ويقول آخرون إنّنا أصبحنا متديّنين. في الواقع، بالإمكان وقد يكون من المفيد تطوير عناصر من تلك التقاليد اللاهوتيّة لتغدو لها مخرجات سياسيّة إيجابيّة. أنا متمرّس بشكل كبير في القيام بذلك في ما يتعلّق بالتّقليد اللاهوتيّ المسيحيّ، لكنّني أظنّ أنّه توجد طريقة في التقليد اللاهوتيّ الإسلاميّ يمكن العمل من خلالها على مشاريع سياسيّة مشتركة. بإمكاني تصوّر - لكنّني لست واثقاً من ذلك- يُسر إيجاد المسلمين المعادين للرأسماليّة أسساً نصّية وتقاليد كلاميّة تدعم موقفاً مضادّاً للرأسمالية. لا أرى سبباً يمنع التقاطع مع المنطق الدينيّ كجزء من سُبُل توسعة مشاريع سياسيّة ومفصلتها.
يوجد تقليد قويّ للحبّ داخل التراث الصوفيّ الإسلاميّ، حيث توجد فكرة "رحلة الحبّ". رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان يستوعب ذلك الخطاب الصوفيّ حول الحبّ أيضاً، لكن غالباً ما يطرحه على طريقة "نحن نحبّ المخلوق حُبّاً في الخالق". وهذا قريب للحبّ الشعبويّ، وهو الوسيط الذي يربط ويوحّد الأب المتوفّى مع الشّعب.
مايكل هاردت: يشكّل ما تقولينه نموذجاً ممتازاً لشكل الحبّ الذي يمثّل انعكاساً وبناءً للتجانس في ذات الوقت، أي على طريقة "أحبّك لأنّك تشبهني". يبدو أنّ الكثير من أقوال أردوغان تشمل إقصاء الذين لا يشبهونه، وذلك حين يقول مثلاً شيئاً خاصّاً حول انتماء الشّعب الذي يحبّه إلى الطائفة السُنّية. هذه هي الوظائف الرهيبة للحبّ في السّياسة التي تحدّثت عنها سابقاً. إنّه نموذج مثالي لها.
يحملنا هذا نحو مأزق فرعيّ آخر في طريق الحبّ. تُورد حنّة أرندت (Hannah Arendt) في كتابها الوضع الإنسانيّ13 (Human Condition) مقتطفاً تقول فيه "ليس الحبّ فقط مفهوماً لا سياسيّاً، إنّه مفهوم مُعَادٍ للسّياسة". لذلك هي تريد حظر الحبّ كلّياً من السّياسة. القوّة اللا سياسيّة بالنّسبة لأرندت هي تلك التي تتجاهل الاختلافات، لكن الحبّ، كما تقول، مضادّ للسّياسة لأنّه يدمّر الاختلافات الضروريّة لها. إنّها تفهم السّياسة كتحدّث في حضور الآخرين، كنوع من الاختلاف الخاصّ بالحقل الاجتماعيّ. أتّفق معها تماماً إذا ما كان الحبّ يعني الترابط بين المتشابهين، أو حتى مسار التماهي بينهم. لكن إذا ما كان بإمكان الحبّ أن يعمل كالتزام معارض للاختلافات يشكل روابط قارّة، فإنّها روابط غير مؤسّسة على التشابه بل على الاختلاف. إذا ما أمكن للحبّ أن يكون كذلك، فسيصبح سياسيّاً بمعنى أرندت، وسيكون نوعاً آخر من السياسة مخالفاً لحبّ أردوغان.
رأس المال والمشترك والزمنيّة
سوف تُنشر صيغة من هذا الحوار في مجلّة تهتمّ بالتاريخ، لذلك من المهمّ النظر في العلاقة بين السّياسة والزمنيّة. تبدو الزمنيّة مظهراً أساسيّاً للطريقة التي تعمل بها السيطرة الرأسماليّة، ولذلك فمن المثير للاهتمام في عملك تلك الطريقة التي تربط بها الاستقلاليّة والمشترك بزمنيّة جديدة. هل هذا توصيف صائب لعملك؟
مايكل هاردت: ينقسم اليسار حول تصوّرين للزّمن. التصوّر الأول، وهو الغالب، تصوّر مرتّب زمنيّاً، أو تصوّر خطيّ للبناء والتحوّل، يُنظر فيه إلى الإصلاحات المهمّة الممكنة الآن وهنا، ويهتمّ بتغيير البنى القانونيّة وتحسين أوضاع العمّال والفقراء. ثمّ هناك اليسار الآخر، أو التصوّر اليساريّ الثاني للزمنيّة، الذي أطلقُ عليه زمنيّة الحدث، والذي لا يتوقّع، أو لا يستطيع توقّع التغيّرات الاجتماعيّة، ولكن بطريقة ما يحدث شيء فجأة، حتى لو بدا آتياً من الخارج، ويقع تحوّل. من المحتمل أن تكون غزّي على سبيل المثال حدثاً بذلك المعنى. حيث لم يكن بالإمكان توقّعه، لكنّه انطوى على نوع من التغيير على مستوى الوعي الاجتماعيّ والممارسات الاجتماعيّة، الخ. وتنقسم هاتان الرؤيتان بين زمنيّة إصلاحيّة وزمنيّة ثوريّة، أعني هنا الثّورة بوصفها حدثاً. ويبدو لي أنّ النّشاط اليساري منقسم بين الرؤيتين. في الواقع، ينظر أغلب من يتبنّى إحدى الرؤيتين إلى الأخرى بوصفها غير يساريّة. أنا متأكد بأنّك سمعتِ الكثير من الشّبان اليساريّين الثوريّين الذين يظنّون أنّ العاملين على تحقيق إصلاحات عمليّة ليسوا يساريّين حقيقيّين. ومن الجهة المقابلة، ينظر اليساريّون الذين يعملون على إنجاز إصلاحات عمليّة إلى الذين ينتظرون أو يطمحون إلى تغيير في شكل حدث، على أنهم ليسوا يساريّين حقيقيّين، أو أنّهم طفوليّون، أو شيء من هذا القبيل. أظنّ أنّه يجب علينا البناء والعمل عبر كلتا الزمنيّتين. صحيح أيضاً أنّ زمنيّة الحدث لا تنطوي فقط على الانتظار. لا يمكنك فقط الجلوس على الأريكة وانتظار قدوم الحدث. فالأحداث يجب أن تُبنى.
أظنّ أنك تقول في كتاب "إعلان" شيئاً حول الاستعداد، حيث تتحدّث عن فتيان شيكاغو14 (the Chicago Boys) ...
مايكل هاردت: أنّهم كانوا مستعدّين.
نعم كانوا مستعدّين.
مايكل هاردت: نعم، هم على أهبة الاستعداد. لقد كنتُ معجباً كذلك بإجابة أحد المنظّرين الإيطاليّين الاستقلاليّين وهو يعمل في معمل شركة فيات (Fiat) في منطقة تورين (Turin) اسمه رومانو ألكاتي (Romano Alquati). فحين سُئل عن أولى الاحداث التي فتحت للعمّال امكانيّة التحكّم في أصواتهم السياسيّة، وكان ذلك سنة 1962 التي شهدت انتفاضة العمّال ضدّ اتّحادهم العماليّ، قال إنّهم لم يتوقّعوا الحدث، لكنّهم أعدّوا له. أنا أحبّ هذه الفكرة القائلة إنّ الأحداث تستوجب نشاطاً سياسيّاً دؤوباً، حتّى في غياب إمكانيّة توقّع النّتائج. أريد رؤية سلسلة متّصلة، أو تقاطعاً مستمرّاً بين نموذجي السياسة اليساريّة اللّذين يمثّلان زمنيّتين مختلفتين.
أريد أن أسألك أيضاً عن تمييزكما بين زمنيّة الحركات الاجتماعيّة التي تنخرط في ممارسات استقلاليّة وبين زمنيّة رأس المال.
مايكل هاردت: أنا أفكّر في تقسيم الزمنيّة عند اليسار.
هل ترى أنّ ذلك يختلف عن زمنيّة رأس المال، أم ترى عدم وجود أيّ تعارض.؟ أعرف أنّك تُشير في كتاباتك إلى وجود زمنيّة رأسماليّة، أو إلى وجود نوع من السّيطرة للزمنيّة الرأسماليّة.
مايكل هاردت: أظنّ أنّ ذلك صحيح، لا توجد زمنيّات رأسماليّة عديدة، بل هي زمنيّة واحدة تتحوّل تاريخيّاً، ويجب أن يعمل ذلك الجزء من الانخراط السياسيّ ضمن تلك الزمنيّة ليكشف عن إمكانيّاتها. بالنسبة لي، وجدتُ جذور التفكير في ذلك في عمل إدوارد بالمر تومبسون (E.P Thompson) صنع الطبقة العاملة الإنكليزيّة15، وبالأساس في مقالة الزمن والانضباط الوظيفيّ والرأسماليّة الصناعيّة. يتحدّث تومبسون عن الطّريقة التي تحوّل بها تصوّرنا الداخلي عن الزمن أو الزمنيّة التي نحيا ضمنها خلال الحقبة الصناعيّة. كان حسّ الناس الداخلي بالزمن قبل الحقبة الصناعية يُحدَّد إمّا من خلال المهامّ، أي الوقت الذي يتطلّب حلب بقرة، أو الوقت الذي بتطلّب القيام بمهمّة ما، أو عبر الإيقاعات الطبيعيّة للأرض مثل المدّ والجزر أو حالات القمر. لقد كان الإحساس الداخلي بالزّمن مرتبطاً بتلك المهامّ. لم تُحدّد الحقبة الصناعيّة زمنيّة صارمة ومتزامنة وقابلة للتقسيم بلا حدّ للعمّال فقط، بل للمجتمع برمتّه. فزمن المصنع، والتقسيم بين زمن العمل وزمن غير العمل، وساعات ودقائق الساعة، كلّ تلك الأشياء وُلدت من المصنع، ثمّ أثّرت على المجتمع برمّته. يتركنا تومبسون هناك، مع زمن المصنع.
أظنّ أنّنا انتقلنا في الحقبة المعاصرة إلى تعديل جديد للزمنيّة الرأسماليّة. وقد جذب اهتمامي كتاب نُشر السنة الفارطة لمؤلّفه جوناثان كراري (Jonathan Crary) عنوانه 24/7: الرأسماليّة المتأخّرة ونهايات النوم16. يتحدّث الكتاب عن زمنيّة جديدة لا نهائيّة لرأس المال، زمنيّة تطمس التّقسيم بين العمل وغير العمل، والتّقسيم بين النوم واليقظة، وهذا مدار تركيز الكتاب. يعتقد كراري بشدّة أنّ رأس المال يحطّم النوم من خلال أنماط استهلاكه وأنماط عمله، عبر المتاجر التي لا تقفل أبوابها والتواصل الذي لا يتوقّف - يمكنك مثلاً في أيّ وقت من الليل أن تلقي نظرة على بريدك الإلكترونيّ أو أن تشتري شيئاً من موقع أمازون.
يربط الكاتب ما سبق جزئيّاً بجميع أنواع اختلالات النوم الراهنة، مثل أنّ الناس لم يعد بإمكانهم النّوم بسبب الانجذاب المتواصل إلى الشاشات بجميع أنواعها. لكن الأهمّ بالنّسبة لي هي الطريقة التي يغيّر بها هذا الأمر الزمنيّة الصناعيّة الثابتة التي حدّدها تومبسون، وخاصّة يوم العمل، أي التقسيم بين العمل وغير العمل. لم تؤدّ ضبابيّة التقسيم بين العمل وغير العمل إلى أيّ نوع من التحرير، بل أدّت إلى توسيع العمل، إلى نوع جديد من السَجن. لقد عبّرت صحيفة أمريكيّة مؤخّراً عن حنقها بشأن قرار شركة فرنسيّة منع عمّالها من تفقّد بريدهم الإلكترونيّ من الساعة السادسة مساءً إلى الثامنة صباحاً، وهذا ما يُمثّل ذلك خرقاً شائناً لعقليّة 24/7 للاستهلاك والإنتاج.
يجب على العمّال في كلّ واحدة من هذه الزمنيّات، ويمثّل هذا جزئيّاً طريقة تفكير تومبسون أيضاً، أن يستخدموا الزمنيّة المقدّمة إليهم من قبل رأس المال كأداة للصّراع بمرور الوقت. أظنّ على نحو مماثل أنّ ذلك هو الاختبار اليوم؛ كيف يمكننا تحويل هذا الزّمن عديم الشّكل أو خفيّ الشكل - لنطلق عليه اسم 24/7 - إلى سلاح؟ بعبارة أخرى، ينبغي علينا التعرّف على طبيعة الزمنيّة الرأسماليّة ومن ثمّة استخدامها، وإيجاد طريقة تجعلها أحد أدوات صراعنا. هذا منظور ماركسيّ كلاسيكيّ، فرأس المال لا يسيطر علينا فقط، بل يمنحنا أيضاً أسلحة للتحرّر يجب علينا إيجادها.
يربطنا هذا بالسّؤال الثاني المتعلّق أيضاً بالطريقة التي تُناقِش بها الزمنيّة في أعمالك. توجد زمنيّة معيّنة لرأس المال، أو بالأحرى للقوى المنتجة، تُفسّر من خلالها أنت ونيغري، في قراءتكما لماركس (Karl Marx)، التحوّلات التاريخيّة في علاقتها بتحوّلات قوّة العمل (أي بروز قوّة عمل جديدة غير ماديّة ومعرفيّة وتواصليّة ووجدانيّة). وتوجد من ناحية أخرى، زمنيّة "القيام بالعمل" مع الآخرين في الحركات الاجتماعيّة، وهو ما تذكرانه في كتاب "إعلان"، وهو ما يُحيل إلى مقاربة التاريخ من منظور ممارسات الحركات الاجتماعيّة. ماهي السبل التي تُمكّن من التفكير في هذين التاريخين بوصفهما متّصلين؟ ألا يوجد هنا توتّر بما أنّ التاريخ الأوّل يبدو وكأنّه ميتا-تاريخ موحِّد لقوى الإنتاج، فيما يبدو التاريخ الثاني متضمنا لزمنيّتين متمايزتين تُحيلان إلى تواريخ الممارسات الاجتماعيّة؟
مايكل هاردت: أرى بلا شكّ أن ّكلا المقولتين مقدّمتان في أشكال منفصلة، لكن أظنّ جزئيّاً من خلال التحقيقات في التركيبة الطبقيّة للمنخرطين في الصراع أنّه يمكن مفصلتهما معاً. بدأ نوع التحقيق في الطبيعة الطبقيّة الذي أقصده حين أشار الناس الى المنخرطين في غزّي بأنّهم "ياقات بيضاء". لقد تساءلت حينها عن معنى الياقات البيضاء، ما هي أنواع المهامّ أو طبيعة القوى المنتجة التي تشملها؟ لقد كانت الطبقات الاجتماعيّة المنخرطة في هذه الصراعات غير واضحة بالمرّة. وأظنّ أنّه حصل في الانتفاضة المصريّة سنة 2011 اختلاط بين القطاعات التقليديّة للطبقة العماليّة الصناعيّة وبين من يمكن تسميتهم بالياقات البيضاء، أي الشبّان الحضريّين الحاصلين على تعليم عالٍ والعاملين في الغالب في وظائف هشّة أو عاطلون عن العمل. لقد كانت إحدى الخطوات، حينها، تتمثّل في تحليل التركيبة الاجتماعيّة، أي التركيبة الطبقيّة للمنخرطين في الصّراع.

صورة تجمع بين مايكل هاردت والفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري
توجد مهمّة إضافيّة أكثر اتساعاً، وأقدّر أنّها مهمّة عسيرة للغاية، فما الذي تعنيه الطبقة اليوم؟ وماهي طبيعة التركيبة الطبقيّة؟ يوجد دائماً افتراض مفاده أنّ الفئات القديمة لم تعد تستجيب إلى أوضاع العمل المعاصرة. لذلك يبدو للعديد من الناس أنّنا لا نتحدّث عن القوى المنتجة، أو الطبقة في العموم، في حين يتولّد ذلك عن سوء فهم، أو قلّة وضوح حول معنى الطبقة اليوم. عندما يستعمل الناس مصطلح الياقات البيضاء لتسمية المركز الطبقي لكثير من المنخرطين في غزّي، فإنّ جزءاً ممّا يقولونه هو أنّنا لسنا طبقة وسطى ولسنا عمّالاً صناعيّين، لكنّنا ما زلنا عمّالاً. لقد مثّل ذلك صراعاً عماليّاً بمعنى ما، إذ توجد تشكيلة طبقيّة مرتبطة به. يبدو لي هذا خطوة أولى مهمّة، لكن يجب أن نذهب أبعد من ذلك.
يقودني ما تقوله إلى التّفكير في السؤال حول الطرق التي وظّف بها العمال من الياقات البيضاء المشاركين في غزّي ممارساتهم المرتبطة بالعمل في فضاء المنتزه. تحدّث كثيرون عن الأدوات التواصليّة وأشكال التواصل الجديدة، وهي مهمّة بالتأكيد، لكن لم يعقد أحد صلة بين هذا الأمر وبين التركيبة الطبقيّة الجديدة، وبين العمل. لكن حتّى بعيداً عن تلك الأشكال التواصليّة للعمل المرتبطة بتكنولوجيات مثل تويتر وفايسبوك، أتساءل حول الطرق الأخرى التي يمكننا التفكير من خلالها في العلاقات بين الممارسات المميّزة لهذه الأشكال الجديدة للعمل، وبين الممارسات التنظيميّة في غزّي.
مايكل هاردت: يذكّرني هذا بعمل باولو فيرنو17 (Paolo Virno) الذي يستخدم مقاربة ألسنيّة لفكرة الجمهور، وقد غيّر عمله بحقّ في اتّجاه فلسفة اللّغة. يشخّص باولو وضع العمل الما بعد فوردي (post-Fordist) كوضع ثرثار. فهو يقول أنّ البروليتاريا الصناعيّة كانت بالأساس صامتة، أي أنّها عملت في صمت أو في ضوضاء المصنع، بينما يتميّز الشّكل الطاغي للعمل اليوم بالأداء اللغويّ والإبداع. بالنّسبة لي لا يمثّل ذلك كلّ شيء، لكنّه يمثّل علاقة مثيرة للاهتمام، قد تكون طريقة لربط القوى المنتجة - لأنّ تطوّر القوى المنتجة بالمعنى الصارم الذي وضعه ماركس وإنغلز مرتبط في السنوات القريبة بتطوّر أدوات لغويّة وتواصليّة وتعبيرات جديدة - بالقدرات اللغويّة المذهلة في غزّي، أي النكات واللافتات والشّعارات. إنّ ذلك يمثّل، بمعنى من المعاني، إحدى طرق الرّبط بين طبيعة القدرات التي رأيناها في الصّراع، وبين نوعيّة القوى المنتجة.
ذكَرتَ سابقاً خلال الحوار كيف أنك وأنطونيو نيغري تتوجّهان نحو التفكير في الاختلاف في علاقته بالتضّاد (antagonism). وبالمثل، تصف في حديثك وكذلك في كتاب إعلان العلاقة بين الحركات الاجتماعيّة والحكومات التقدميّة، خاصّة في أمريكا اللاتينيّة، بأنّها علاقة تعاون تضاديّ. أنا مهتمّة بمعرفة طبيعة هذه العلاقة، وأرى من المهمّ أيضاً توضيحها كعلاقة قائمة بحدّ ذاتها، لأنّ هذا النوع من العلاقة يُعتبر غالباً -وهنا أستحضر طبيعة الاتّهامات الموجّهة إلى الحركة الكرديّة من قبل قطاعات من اليسار في تركيا- كنوع من البراغماتية الانتهازيّة، وهو ما يجعل البراغماتيّة أمراً سيّئاً بالضّرورة.
مايكل هاردت: أي كأنّها تخون مبادئها.
نعم، هل بإمكانك التوسّع في فكرة التعاون التضاديّ كشكل من السّياسة، وكيف يحصل ذلك في سياق أمريكا اللاتينيّة؟
مايكل هاردت: دعيني أبدأ من التعريف التاريخيّ والعامّ جدّاً. الأمر المبتكر في أمريكا اللاتينيّة في العقد الأخير هو الحركات الاجتماعيّة التي لم تقم فقط بتحديد النيوليبراليّة كعدوّ رئيسيّ، بل قامت بإسقاط حكومات نيوليبراليّة من خلال تشكيلات اجتماعيّة واسعة. وقد تشكلّت بعد سقوط تلك الحكومات، حكومات تقدميّة مضادّة للنيوليبراليّة انبثقت بطُرق معيّنة من رحم الحركات نفسها، وغالباً على يد شخصيّات من داخل الحركات نفسها.
ما يمثّل مشكلة هو أنّ الحركات رفضت منطق التمثيل السابق، فإذا ما قبلت بأن تكون الحكومة ممثّلة لها، فما عليها حينها سوى حلّ الحركة والذهاب إلى المنزل. أظنّ أنّ الحالات الأكثر إيجابيّة تكون حين تبقى الحركات الاجتماعيّة قائمة، فهي لا تثق في التمثيل أو لا تقبل بتمثيل الحكومة لها، لكنّها أيضاً ليست دوغمائية في مواقفها المضادّة للسّيادة. إنّها تحافظ بدل ذلك على نوع من الالتزام التضاديّ الدائم مع تلك الحكومات، فهي تقف أحياناً في صفّ الحكومة ضدّ افتكاك شركات أجنبية السّيطرة على منجم، لكنّها تهاجم أيضاً الحكومة في ممارساتها الاقتصاديّة المدمّرة للطّبيعة، أو ممارساتها ضدّ مجموعات السّكان الأصليّين. لقد أصبحت تلك الحكومات بطريقة ما مضادّة للنيوليبراليّة، لكنّها تحديثيّة و"استخراجيّة" (extractivist) - هذا هو المصطلح الذي يستخدمونه في أمريكا اللاتينيّة، للإشارة إلى استخراج النفط والمواد الأوليّة، إضافة إلى ما يسمّونه "الزراعة أحاديّة الثقافة" (monocultural agriculture).
ذلك ما يميّز تلك الحكومات. وعندما تحافظ الحركات على زخمها، فهي تُبقي علاقتها بالحكومات صراعيّة. تبدو لي هذه الطريقة فعّالة في ممارسة سياسة استقلاليّة. لكن تُوجد صيغة أخرى للسياسة الاستقلاليّة، وتتمثّل في ما أصبح عليه الزاباتيون18 (Zapatistas) نتيجة اعتقادهم في ثبوت استحالة الالتزام مع الحكومة، وقد حافظوا من خلال الانفصال عن الحكومة على استقلاليّتهم.
تتحدّث في كتاب إعلان عن أنطولوجيّات سياسيّة متعدّدة، يمكن أن تكون هاتان الصيغتان ضمن مجال تأسيس استقلاليّة. أريد إنهاء الحوار بسؤال حول الكتابة كممارسة إشراك، أقصد بذلك تجربتك في الكتابة مع نيغري. كما أنّي أرى كتاباتك كحالة تعدّد، بالنظر إلى الأجناس المختلفة التي تجمعها معاً (شعريّة، وأدبيّة، ولاهوتيّة، وفلسفيّة، والمشابهة جزئيّاً للمانيفستو الحزبيّ، وأصناف أخرى). يتراءى لي في أحيان كثيرة أنّ ذلك مقصود، أي أنّه شيء تسعى إليه.
مايكل هاردت: أفكّر دائماً في الجملة الافتتاحيّة لكتاب جيل دولوز وفيليكس غاتاري ألف هضبة19 حيث يقولان "لقد كتب كلانا هذا الكتاب. وبما أنّ كلّاً منّا كان بالفعل عدّة أشخاص، كنّا بالفعل حشداً". دائماً ما أفكّر مع أنطونيو في أنّ التعاون مع شخص آخر يسمح، بمعنى من المعاني، بالتعبير عن تلك الأصوات المتعدّدة داخل كلّ شخص، ثمّ تخرج تلك الأصوات في أشكال مختلفة. ونحن نجرّب أحياناً هذا الأمر في الكتابة، ونتمنّى أن نجرّب أكثر فأكثر السماح لأصوات مختلفة بالتحدّث. لقد كان نيتشه يتقن بمهارة السماح لأصوات مختلفة بالتحدّث. أمّا بالنّسبة لي أنا وأنطونيو، فإنّ الأمر لا يتعلّق بصفة أساسيّة بالكتابة، بل هو يتعلّق أساساً بالصّداقة، أي أنّ الكتاب هو نتاج الصداقة. ولذلك تستمرّ الصداقة، ويخرج الكتاب كجزء من نقاش أطول، ومن الجميل أن يكون الكتاب تجسيداً لذلك.
تجلٍّ لصداقة ذات أبعاد متنوّعة؟
مايكل هاردت: نعم، تجلٍّ لصداقة ذات أبعاد متنوّعة.
مصدر الحوار:
الهوامش:
-1- هاردت (مايكل) ونيغري (أنطونيو)، الإمبراطوريّة: إمبراطوريّة العولمة الجديدة، ترجمة وتحقيق: فاضل جكتر، مكتبة العبيكان ، الرياض، 2002.
-Hardt (Michael) & Negri (Toni), Empire, Harvard University Press, 2000, 478 p
-2-هاردت (مايكل) ونيغري (أنطونيو)، الجمهور: الحرب والديمقراطيّة في عصر الإمبراطوريّة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2015.
-Hardt (Michael) & Negri (Toni), Multitude: War and Democracy in the Age of Empire, Penguin Press, 2004, 427 p.
-3- Hardt (Michael) & Negri (Toni), Commonwealth, Belknap Press of Harvard University Press, 2010, 448 p.
-4- Hardt (Michael) & Negri (Toni), Declaration. Argo Navis (self-published), 2014.
-5- غِزّي هو منتزه مجاور لساحة تقسيم في اسطنبول، وقد شهد سنة 2013 مواجهات عنيفة بين متظاهرين رافضين لإقامة مركز تجاريّ مكان الحديقة الموجودة في المنتزه. استمرت الاحداث لأشهر وجرح فيها أكثر من 4 آلاف شخص. واعتبرت حكومة رجب طيب أردوغان أن المتظاهرين يستهدفون إسقاط حكومته.
-6- ولد فريدريك جيمسون سنة 1934 في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وهو ناقد أدبي ومنظّر سياسيّ ماركسيّ. يدرّس الأدب المقارن والدراسات الرومنسيّة في جامعة دوك.
-7- يبدو أن الترجمة العربية لكلمة "Multitude'' إلى "جمهور" تفتقد الدقّة، أو تستوجب توضيح الانزياح الحاصل في المعنى، حيث يفرّق مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في مقدمة كتابهما بين الحشود/الجمهور (The Masses) وبين "Multitude'' ويشرحان المفهوم الأخير كمجموعة من الذوات تحمل اختلافات داخليّة غير قابلة للحصر على مستوى الثقافة والعرق والاثنية والجندر وعلى مستوى التوجهات الجنسيّة ونوعيّة العمل واختلاف طرق العيش والنظرة إلى العالم واختلاف الرغبات. الMultitude هي تعدديّة كل هذه الاختلافات ولا يمكن حصرها في وحدة أو هويّة واحدة وهو ما يميّزها عن مفهوم الشّعب وكذلك عن مفهوم الطبقة العاملة الذي يعتبرانه مفهوماً حصرياً فهو لا يميّز فقط بين العمال والملاكين بل كذلك بين العمال الصناعيّين والعمال من خارج الميدان الصناعيّ كالعمال الفلاحيّين والعاملين في قطاع الخدمات، أما الحشود/الجمهور (The Masses) فهي وإن تشكلت من أفراد مختلفين فهي في جوهرها تعكس التشابه وتستوعب الاختلاف وتتشرّب كلّ الألوان بحيث تستحيل إلى لون رماديّ.
ويتمثّل رهان مفهوم الـ"Multitude" في قابليّة التعدديّة الاجتماعيّة للتواصل والفعل المشترك مع الاحتفاظ بالاختلاف الداخليّ.
-8- Laclau (Ernesto), On Populist Reason, 2005, Verso.
9-- Hardt (Michael), The Procedures of Love: 100 Notes, 100 Thoughts, Hatje Cantz Verlag GmbH & Co KG, 2012, 24p.
-10- Proust (Marcel), In Search of Lost Time, Modern Library; Slp edition (June 3, 2003), 4211p.
تتألف رواية مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود" من 7 أجزاء تُرجم بعضها إلى العربيّة على يد المترجم إلياس بدوي. عنوانها الأصلي بالفرنسية ''À la Recherche du Temps Perdu'' وكتبت بين سنة 1906 و1922.
-11- خوسي مونوز: أكاديميّ أمريكيّ مختصّ في دراسات الأداء، والدّراسات الثقافيّة، والنظريّة النقديّة.
-12- جان جينيه: روائي ومسرحي وشاعر وناشط سياسي فرنسي. من اعماله المترجمة إلى العربية، مسرحية "الشرفة''، رواية ''يوميات لص''.
13- - Arendt (Hannah), The Human Condition, University of Chicago Press, 2013.
-14- فتيان شيكاغو (the Chicago Boys): مجموعة من الاقتصاديّين الشيليّين درسوا الاقتصاد في جامعة شيكاغو في إطار تعاون بين جامعة الشيلي البابويّة الكاثوليكيّة وجامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكيّة. تأثر هؤلاء الاقتصاديون بأطروحات أساتذتهم ميلتون فريدمان (Milton Friedman) وأرنولد هاربرجر (Arnold Harberger). استعان بهم الجنرال بينوشي بعد الانقلاب العسكريّ في الشيلي وسلّمهم وظائف مفتاحيّة لتطبيق خططهم الاقتصاديّة. تميّزت الاجراءات المتخذة من قبل فتيان شيكاغو بالخصخصة وبإجراءات اقتصادية نيوليبراليّة تتجاوز في حدّتها الاجراءات المتّخذة في بلدان مثل الولايات المتحدة. يشمل المصطلح أيضاً اقتصاديّين من بلدان لاتينية أخرى كالبرازيل والبيرو والأرجنتين.
-15- Thompson (Edward Palmer), The Making of the English Working Class, IICA, 1963.
-16-Crary (Jonathan), 24/7: Late Capitalism and the Ends of Sleep, Verso, 2014.
-17- باولو فيرنو: فيلسوف وسيميولوجي إيطالي ولد سنة 1952 في نابولي. يعتبر رمزا للحركة الماركسيّة الإيطاليّة. أعتقل سنة 1979 بتهمة الانتماء إلى "الألوية الحمراء" وأمضى سنوات في السجن. يدرّس فيرنو حالياً الفلسفة في جامعة روما.
-18- الزاباتيون (Zapatistas): أو الجيش الزاباتي للتحرير الوطني. هم مجموعة يسارية مسلّحة تتخذ ما مدينة تشاياباس في أقصى الجنوب المكسيكي كقاعدة لها. انطقت الحركة سنة 1994 واعلنت أن الحرب ضدّ الدولة المكسيكية، معظم أعضاء المجموعة من السكان المحليّين (الهنود). الناطق الرسمي هم القائد الأدنى ماركوس.
تستلهم المجموعة اسمها من إيميليانو زاباتا (Emiliano Zapata) قائد جيش تحرير الجنوب خلال الثورة المكسيكية.
Deleuze (Gilles) and Guattari (Félix), A Thousand Plateaus, A&C Black, 2004 - 688 p.-

مترجم وباحث من تونس، مجاز في اللغة والآداب والحضارة الإنكليزية ويواصل دراسة الماجستار في نفس الاختصاص، له مقالات وحوارات مترجمة منشورة على الإنترنت وفي بعض المجلات الثقافية والكتب.
تحميل المادة بصيغة PDF:

جارن أوز سلجوق
باحثة في قسم السوسيولوجيا / جامعة بوغازيتشي التركية.