سجال سوري – لبناني انتهى كما بدأ

27 أيلول/سبتمبر 2016
 
تشهدُ مواقع التواصل الاجتماعي سجالات بين كتاب وصحافيين وناشطين في المجال العام من السوريين واللبنانيين غالباً ما تتسم بالسلبية والحدة اللفظية، وتعكس مواقف من مقالات ودراسات أو أوراق نُشرت على منابر إعلامية مختلفة.
تتخذ السجالات هذه سمة تبادل الاتهامات، وتُلقي بظلالها القاتمة على صداقات وعلاقات شخصية ودية تكاد تحيلها، أوأحالت بعضها بالفعل، إلى علاقات سابقة. أما مضمون الاتهامات فيختلف من جهةٍ الى أخرى. يتهم السوريون اللبنانيين، على الأعم، بالتعالي والأستذة والتدخل في الشأن السوري، حتى لو كانت معارف المتدخلين اللبنانيين شحيحةً وخاطئة. في المقابل، يرى المساجلون اللبنانيون أن نظرائهم السوريين ما زالوا متأثرين بشدة، وعن وعيٍ أو من دون وعي، بالإرث البعثي في التعامل مع الآخرين، وأن السوريين تضيق صدورهم أكثر مما ينبغي عندما يوجه اليهم نقد، حتى لو صدر النقد هذا من اصدقاء أو حلفاء للثورة السورية.
كان من الأفضل إيراد أسماء هؤلاء المتساجلين، مع نماذج عن الحوارات التي دارت على مواقع التواصل، وما تبعها من لقاءات شخصية، وخاصةً بين العديد من الناشطين والكتاب اللبنانيين والسوريين لم تسفر عن تحسين أجواء هذه البيئة، التي يُفترض أن ما يجمعها في مواجهة نظام بشار الأسد، وفي التطلع إلى مستقبلٍ خالٍ من الاستبداد والتسلط، وتسوده العدالة الاجتماعية، وحدٌ أقصى من الحريات، وتداول السلطة ديموقراطياً، أكبرُ كثيراً مما يفرقها من وجهات نظر حول مسائل آنية ومحدودة الأهمية. نقول كان من الأفضل ذكر الأسماء وإيراد عينات ونماذج لجعل الكلام أقرب إلى الواقع الملموس، لولا الخشية من أن تتحول استعارة مواقف أُعلنت وأقوال قيلت هنا وهناك إلى مصدرٍ جديد للخلافات والسجالات، التي نرى ألّا طائل منها، وأنها لا تأتي بجديد، لا على صعيد دفع قضية الثورة السورية قدماً إلى الأمام، ولا على مستوى تطويق الآثار الكارثية لتدخل الميليشيات اللبنانية المسلحة في الحرب السورية لمصلحة النظام القائم، ولا في إطار تقديم معرفةٍ متقدمة تتعلق بالعلاقات اللبنانية – السورية والتصورات الرامية إلى تخليصها من عبء التاريخ الثقيل.

يُحيل الكلام عن السجال المذكور، من دون ذكر أسماء "أبطاله" ونماذج عن ارائهم، المسألة إلى "قصة ٍداخلية" يعرف تفاصيلها المشاركون فيها، ومن يقف على حواشيها، أو من يشترك في معمعاتها مؤيداً هذا الطرف ومعارضاً ذاك، بسبب انتمائه الهوياتي وميله العاطفي. سنُقدمُ على هذه التضحية نظراً إلى أن "تبادل الاراء" – وهذه عبارةٌ ملطفة عن حقيقة ما يُقال ويُكتب- بات يشكل ظاهرة تقول أشياء كثيرة "عن" العلاقة الحالية والمقبلة بين اللبنانيين وبين السوريين، من دون أن تقول شيئا يُذكر "في" العلاقة هذه. بكلمات ثانية، مضمون ما يتبارى الجانبان في التأكيد عليه هو ما يفتقر الى الأهمية، في حين أن حواراً حقيقياً بين كتاب وناشطين لبنانيين وسوريين يتراءى لنا أنه يستحق اهتماماً أكثر جديةً من تبادل اتهامات واستنفار عصبيات وهويات.

غياب السمة المؤسسية لحوارٍ لبناني –سوري منذ زمن الوصاية على لبنان أمرٌ معروف، وهذا الغياب الذي جعل جل النقاشات تجري على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الغرف المغلقة، أرخى بظلاله على النقاشات بين مؤيدي الثورة السورية في لبنان وسوريا وفتح الباب واسعاً أمام وراثةٍ لا إرادية لأمراض الزمن السابق.

وينبغي التوضيح أن الموضوعية غايةٌ لا تُدرك في سياقنا ههنا. فالهوية ترتفع جداراً عالياً عند أي مقاربة لمسألةٍ معقّدة على ما في العلاقات اللبنانية- السورية من تشابكٍ وتصورات نمطية مسبقة، غذّتها عقود من الأكاذيب والنفاق. عليه، لن يفلح القول بتبني وجهة نظرٍ محايدة ما دام القائل ينتمي إلى واحدٍ من الطرفين. لكن لنتصور أن في الوسع وضع جدولٍ بمآخذ كلٍ من السوريين واللبنانيين المذكورين على الجانب المقابل ثم العمل على تفكيكه وتفنيده. هل ستؤدي مقاربةٌ كهذه إلى نتيجة إيجابية في تحسين العلاقات؟ نزعم أن لا.


جملةٌ من الموانع تعيق تقدم أي حوار بين الناشطين والكتاب والمثقفين السوريين واللبنانيين، ونكرر، المؤيدين للثورة – باعتبارهم يمثلون فئةً معنيةً بمستقبلٍ أفضل للشعبين والبلدين. أول العوائق هذه هو هامشية الجانبين، وعزلتهما عن العملية والفاعلية السياسيتين. فاللبنانيون والسوريون المنخرطون في تبخيس بعضهم البعض لا يشكلون فئات ذات وزن في بيئاتها. أو لم تستطع ان تبني خطاباً، بمعنى حملهِ لمصالح شرائح اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتصوغه ثقافياً. فلا ينطبق عليهم، بالمعنى هذا صفة "المثقف العضوي" الشهيرة. لكنهم في المقابل ليسوا شعراء قبائلهم ومداحيها وندابي قتلاها.

ضآلة الاثر السياسي لا تصلح لتقييم النتاج الذي يقدمه هؤلاء المثقفون والكتاب في الأعمال التي ينتجونها. فالقيمة المعرفية للأدبيات التي تلامس النظرية والفكر السياسيين غالباً ما لا تعكس الواقع الحالي. وقد شهدنا في الكثير من الأعمال السورية واللبنانية انكباباً على دراسة نظام حافظ وبشار الأسد من زوايا جديرةٍ بالاهتمام، لكنها لا تقول الشيء الكثير عن المستقبل وكيفية بنائه. ومراقبةُ الاحداث تجري على غير ما يرغب من اندفع منذ ايام الثورة الاولى إلى تأييدها بكل الوسائل، بل وتحمل خسائر جسيمة في بعض الحالات جراء انعطافات الثورة وانتكاساتها، يفاقم الشعور بالنبذ من قبل الثائرين الذين ساروا باختيارهم، أو رغماً عنهم، في طرق غير التي تصورها المثقف في لحظات الحماس الاولى.

يقودنا هذا الى العائق الثاني أمام تقدم الحوار، أي الإحساس متفاوت الحدة بهزيمة الثورة السورية، أو للدقة، الإحساس بنهاية الطور الثوري الذي انطوى على آمال بإسقاط نظام الأسد وقيام حكم أوسع تمثيلاً للسوريين وأكثر عدالةً معهم. بداهةً أن سلطةً ذات قاعدة تمثيلية عريضة، ومطمئنة إلى شرعيتها وواثقة بنفسها، ستؤدي الى تغيرٍ عميق للتوازنات السياسية في لبنان المجاور شديد التأثر، قليل التأثير، بالحدث السوري.

وعوضاً عن أن يجذب تقدمُ الثورة وتعاظم مهماتها الناشطين السوريين واللبنانيين إلى نقاش شؤون المستقبل وتحدياته وكيفية المواجهة المشتركة للصعوبات التي قد يحملها تبدلٌ عميق في البلدين، حملت "الهزيمة" الناشطين هؤلاء إلى تركيز عنايتهم على الفوارق والخلافات الفكرية والسياسية، وحتى السلوكية الشخصية بين بعضهم البعض. لم يعد مطروحاً كيف نعيد صوغ العلاقات اللبنانية – السورية بعد عقود من التلاعب الذي مارسه نظام الأسد بها، بل صار أسهل كثيراً إخضاع الجانب المقابل لاختبارات في الالتزام الاخلاقي تجاه أهداف الثورة، من دون الالتفات إلى أن الاهداف هذه بات تحقيقها في حكم المحال بعد انقضاض قوى الثورة المضادة، بالتكافل والتضامن مع القوى المؤيدة للنظام على جمهور الثورة الأول. ولا ينتطح عنزان في رصد التباينات الجذرية بين التنسيقيات والفصائل التي حملت عبء الثورة في مراحلها التاسيسية، وبين تلك المهيمنة اليوم عسكرياً وإدارياً ومعيشياً على المناطق الخارجة عن سلطة النظام، لكن هذا حديث آخر.



المهم أن التشاغل بمرارة الهزيمة بدل التفكير في مستقبل البلدين كشف النقاب عن العائق الثالث، وخلاصته الاختلاف الجدي في التجارب السياسية والفكرية والحياتية للناشطين في البلدين. ليس من الموضوعي ولا المنطقي في شيء مقارنة تجارب اللبنانيين والسوريين في هذه المجالات، ناهيك عن التفاوت الشاسع في تجارب وخبرات وثقافة كل فردٍ على حدة من اللبنانيين والسوريين، وذلك للأسباب المعروفة المرتبطة بالتاريخ الحديث للبلدين ولتطورهما السياسي ولاحتكاكهما بالعالم الخارجي. وبالقدر ذاته من انتفاء الموضوعية تكمن محاولات "التقريب" بين الجانبين تقريباً قسرياً يسعى أصحابه إلى فرض رؤاهم على الجانب الآخر. ينهض هنا السؤال: هل ينبغي على اللبنانيين الناشطين تأييد الثورة السورية من دون أي حق في النقد أو الاعتراض على مسارات وأحداث وأدبيات مرافقة لمسارها، بما أن الثورة هي لأصحابها السوريين أولاً وآخراً؟ وهل يستطيع أيٌ من اللبنانيين الزعم أنه يدرك أكثر من السوريين مصالحهم وكيفية إدارة معاركهم؟  

من جهةٍ ثانية، تبدو ساذجةً، بل مثيرةً للسخرية، مقولات عن قدرة أي من المشاركين في هذه السجالات على فهم الآليات العميقة لتاريخ البلدين واجتماعهما وثقافاتهما المحلية. لكن السذاجة تتسع لتشمل من يظن أنه يحتكر العلم في مجاله، وأن لا حقّ للآخرين للإدلاء بآرائهم، حتى لو كانت ترتكز إلى خزينٍ معرفيٍ شحيح، في استعادةٍ حزينة لاحتكار الحقيقة والفهم الأحادي للعملية الثقافية.

وعلى غرار كل قسرٍ وإكراه، غالباً ما ينتهي كل حوارٍ هذه سماته الى الإقصاء والإبعاد والإلغاء. وغالباً ما يتوقف التبادل والتناضح المعرفي، لترتفع مكانه الحواجز والمتاريس التي تحدد الحيز الذي يجوز الحوار فيه، وذاك الذي ينبغي حظر التجول فيه على غير أصحابه.

من أسفٍ أن أي حوارٍ سوريٍ لبناني، بين المؤيدين للثورة، لم يُفضِ إلى نتيجةٍ تُذكر، حيث تُستعاد تصورات مسبقة كان الأمل كبيراً في أن تجرفها رياح التغيير.

Save

حسام عيتاني

صحافي وباحث لبناني، يشغل حالياً موقع مسؤول ملحق "صحافة العالم" الأسبوعي في جريدة الحياة اللندنية.

مواد أخرى لـ حسام عيتاني