Print this page

حالة الدروز في بلاد الشام: "تغدّا عند درزي ونام عند يهودي"

07 تشرين2/نوفمبر 2016
 
ولدتُ في حارةٍ عشوائية مقابل مقبرة الدحداح بدمشق بناها المهاجرون الألبان القادمون من يوغسلافيا في ثلاثينات القرن الماضي، حيث بنوا فيها "جامع الأرناؤوط" الذي لايزال صامداً وسط التحديث العمراني الذي لحق بتلك المنطقة، وخاصة بعد شقّ "شارع حلب" الذي فصلها عن "شارع بغداد". ومع ذلك، كان لابد من عبور شارع بغداد للوصول إلى الخدمات (التعليم والصحة الخ).
ومن ذلك أذكر أن والدتي كانت تأخذني عند طبيب يهودي في باب البريد، القريب من حارة اليهود، حين كان اليهود جزءاً من النسيج المحلي للمجتمع الدمشقي.

ولكن الوضع بدأ يتغير بعد حرب 1948 حين سكن في هذا الحي العشوائي "الديوانية" لاجئون فلسطينيون حملوا معهم صورة مختلفة عن اليهود. ومع مرور السنوات تنوع سكان الحي أكثر، وخاصة بعد 1963 مع قدوم سكان جدد من حوران والساحل، مما جعلنا في المدارس نتعرّف على المجتمع لسوري بكل تنوعاته.

تذكرتُ كل ذلك عندما سمعت قبل عدة أسابيع مثلاً شعبياً أردنياً خلال مناقشة رسالة دكتوراة في العلوم السياسية يقول "تغدا عند درزي ونام عند يهودي". كانت الرسالة عن تجربة الدروز في الأردن ومشاركتهم في النظام السياسي بالمقارنة مع لبنان. وفي الحقيقة لدينا تشابك بين دروز بلاد الشام حيث يشكل دروز الأردن، الذين استقروا هنا بعد تشكيل الكيان الأردني في 1921، حلقة وصل بين الدروز في جنوب سوريا والدروز في الجولان وشمال إسرائيل. وحتى عندما تعقد الوضع في سورية في 2014 وبدأ الحديث عن سيناريوهات لخريطة جديدة لبلاد الشام برز الحديث عن "الأردن الكبير" الذي يمكن أن يضم هذا الامتداد من جبل الدروز الى الجولان.

كان هذا المثل الشعبي الذي أورده أحد أعضاء لجنة المناقشة يدلّ، كما هي الأمثال الشعبية بشكل عام، عن تجربة التعايش بين مكونات المجتمع الشامي مع أنه يمكن أن يقرأ على مستويين: دلالة التعايش بشكل عام، ودلالة الغداء عند الدرزي والنوم عند اليهودي.

مع ذلك يبدو من المفيد أن ننقل أهم ما وصلت إليه رسالة الدكتوراة "دور الأقليات في الأنظمة السياسية العربية: الموحدون الدروز في الأردن ولبنان أنموذجاً" لراكان أبو طرية، التي كانت الأولى من نوعها التي تتعرض الى المجتمع الدرزي في الأردن وتجربته السياسية، أو تجربة/ مشاركة الدروز في النظام السياسي الأردني بالمقارنة مع تجربة/ مشاركة الدروز في النظام السياسي اللبناني، حيث لدينا في الواقع تجربتان مختلفتان تماماً.

وتجدر الإشارة إلى أن الباحث ، الذي هو من أبناء هذه الطائفة، حرص في رسالته على توضيح الجانب العقيدي الذي بقي مجالاً مفتوحاً للتقولات المختلفة التي كانت ولاتزال تحيط بهذه الطائفة. فالباحث يرى أن الدروز "يتميزون منذ بداية الدعوة عن سائر المسلمين بمفاهيم خاصة لبعض آيات القرآن الكريم، ولبثوا فرقة اسلامية زادت خصوصيتها وضوحاً وتكريساً مع الزمن مع اتساع نطاق حرية المعتقد والتعبير عنه وإقامة الشعائر في المناطق الجبلية الحصينة التي سكنوها"، وأن "حجبهم لتعاليمهم هو من باب التقية وقد فرضتها ظروف الاضطهاد والخوف الذين كثيرا ما عانوا منهما ولم تزل".

ومن ناحية أخرى، فقد انحصر انتشار هذه الطائفة بعد إغلاق الدعوة إليها في منتصف القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، وأصبح وجودهم في القرون الأخيرة منحصرا في بلاد الشام، وبالتحديد جنوب سوريا ولبنان والأردن وفلسطين وإسرائيل. أي في دائرة واحدة لا يتجاوز قطرها 300 كم (باستثناء جبل السماق في محافظة ادلب)، ولكنها متواصلة فيما بينها على الرغم من توزعها على الكيانات السياسية المذكورة.

وفيما يتعلق بالأردن فقد ارتبط وجود الدروز فيها بمنطقة الأزرق منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد استحصل الزعيم الدرزي مصطفى الأطرش وثيقة من السلطات العثمانية تفيد بأن منطقة الأزرق هي أرض برية تقع جنوب قرية متان في جبل الدروز وهي إرث للطرشان يستخدمونها للرعي، وبذلك أصبحت منطقة الأزرق تعتبر امتداداً جنوبياً لجبل الدروز. وخلال الثورة العربية 1916-1918 وصلها الأمير فيصل على رأس الجيش العربي الشمالي في أيلول 1918، وخاطب منها زعماء جبل الدروز للانضمام الى الثورة العربية. ومع مشاركة الدروز في الحملة إلى دمشق وإعلان "الحكومة العربية" في تشرين الأول 1918، التي شملت حدودها شرق الأردن بدأ هبوط الدروز من الجبل إلى السهل الجنوبي (الأزرق) واستقرارهم فيها.

ومع سقوط "المملكة السورية" التي أعلنت في 8 آذار 1918 أمام تقدم الجيش الفرنسي المحتل بعد معركة ميسلون 1920، ومغادرة الملك فيصل الى فلسطين في طريقة إلى أوروبا، جاء أخوه الأمير عبد الله على رأس قوة من الحجاز إلى شرق الأردن  لـ "تحرير سوريا" في أواخر 1920، ووصل عمان في آذار 1921 ليصبح على رأس إمارة (شرق الأردن) التي اجتذبت النخبة العروبية. ومن هؤلاء شكّل الأمير أول حكومة عهد برئاستها إلى الدرزي السوري اللبناني رشيد طليّع.
رشيد طليع
وقد تعزز الوجود الدرزي في الأردن لاحقا مع الثورة السورية 1925-1927، حيث لجأ بعض المشاركين في الثورة هربا من ملاحقة الفرنسيين، كما استمر لجوء العائلات الدرزية الى الأزرق خلال 1933-1945. وخلال الحرب الأهلية في لبنان 1975-1990 لجأ بعض الدروز إلى الأردن، وبقي بعضهم فيه بعد أن حصلوا على الجنسية الأردنية.

وفي الواقع لم يُحسم وجود الدروز في الأردن إلا بعد أكثر من عشر سنوات من الخلاف بين سلطات الانتداب الفرنسية والبريطانية حول تعيين الحدود بين سورية و إمارة شرق الأردن. فقد وقّعت فرنسا وبريطانيا اتفاقية 23 كانون الأول 1920، التي أودعت في عصبة الأمم في شباط 1924، ولكن الجزء الجنوبي من جبل الدروز بقي موضع خلاف وصل إلى عصبة الأمم. وقد توصّلت فرنسا وبريطانيا إلى اتفاقية جديدة في 31 تشرين الأول 1931 اعتمدتها عصبة الأمم. وبموجب هذه الاتفاقية، التي لم يؤخذ فيها رأي سكان المنطقة، بقي معظم جبل الدروز داخل سوريا وذهب قسم صغير منه إلى إمارة شرق الأردن بما في ذلك منطقة الأزرق. وبالإضافة إلى الأزرق  فقد وُجد الدروز في قرية أم القطين المجاورة لجبل الدروز، التي كان يتوافد عليها الدروز للماء والرعي قبل ترسيم الحدود، وكذلك في البلدات والمدن الجديدة التي نشأت الى الجنوب حول عمان مثل الزرقاء والرصيفة، ومن ثم في العاصمة عمان التي تضخمت بسبب هجرة كل المكوّنات إليها في العقود الأخيرة.

ومع ذلك، بقي عدد الدروز في الأردن محدوداً (حوالي عشرة آلاف) بالمقارنة مع عدد الأقليات الأخرى التي جاءت الأردن وأصبحت من مكوّناته كالشركس والشيشان. ولأجل ذلك نجد  أنه مع تشكيل المجلس التشريعي في 1928 فقد نصّ القانون الانتخابي على وجود كوتا للشركس والشيشان والمسيحيين. ومن هنا أبرز الباحث الفارق  بين الأردن ولبنان، حيث أن النظام في لبنان يقوم على المحاصصة الطائفية، وهو ما يتيح للدروز حصة خاصة بهم تبرزهم كدروز نتيجة لدورهم الفاعل في الحرب الأهلية والحياة السياسية (أحزاب خاصة بالدروز)، بينما "ساهم النظام السياسي الأردني كنظام مدني ديموقراطي في دمج الموحدين الدروز وباقي الأقليات في المجتمع الأردني". ولذلك تغلب الهوية الوطنية على دروز الأردن حيث يشاركون في مختلف الأحزاب، وإن وصل أحد منهم إلى البرلمان يكون ممثلاً للناخبين الذين انتخبوه حسب القائمة التي يمثلها وليس ممثلا للدروز.

ولكن يلاحظ الباحث وجود نقص أو خلل لدى دروز الأردن ألا وهو افتقادهم إلى مرجعية دينية أو مشيخة خاصة بهم. فبحكم الطبيعة العقدية للطائفة تعتبر المرجعية الدينية أو المشيخة مؤسسة مهمة، ونظرا لأن المرجعيات الدينية أو المشيخات الدرزية في الدول المجاورة (سوريا ولبنان وإسرائيل) تتسيّس أو تباين نظرتها ومواقفها مما يحدث في المنطقة (وعلى الأخص في سوريا) فإن وجود مرجعية أو مشيخة خاصة بدروز الأردن يعزز الشخصية الوطنية لهذه الطائفة.

ومن المأمول أن يؤدي نشر هذه الرسالة إلى انفتاح الأكثريات على الأقليات، وعلى تجربتها في الأنظمة السياسية لبلاد الشام، وخاصة فيما يتعلق بالطوائف المنغلقة بالمفهوم العقدي كالدروز والعلوية والاسماعيلية والمرشدية، التي لعبت دوراً سياسيا أكبر من حجمها العددي لاعتبارات عديدة. والانفتاح هنا يعني الاعتراف بالاختلاف واحترام عقائد الآخرين، واستعداد الجميع للمشاركة في بناء الدولة الوطنية التي تقوم على أساس المواطنة والمساواة والعدالة وليس على أساس المحاصصة المفروضة من الداخل أو من الخارج.
Save

SaveSave

13035 قراءة
محمد م. الأرناؤوط

مؤرخ كوسوفي / سوري ، اشتغل في جامعة بريشتينا وفي عدد من الجامعات الأردنية (1974-2017) . يشتغل في تاريخ بلاد الشام والبلقان خلال الحكم العثماني والعلاقات العربية- البلقانية . من مؤلفاته "معطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر" و "دراسات في بلاد الشام في القرن السادس عشر" و "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920" و "ودراسات في الصلات العربية – البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" و"البلقان من الشرق إلى الاستشراق" الخ .

مواد أخرى لـ محمد م. الأرناؤوط