Print this page

فادي صقر بين مرارة الماضي وضرورات الحاضر في سوريا: تحليل سياسي وعسكري

10 حزيران/يونيو 2025
 


إن التوازن بين المبادئ الثورية والواقعية السياسية والعسكرية هو أحد أصعب الاختبارات التي ستواجهها سوريا الجديدة في سعيها نحو بناء مستقبل مستقر ومزدهر. وهو اختبارٌ لن تمكن مواجهته بغير التواصل الشفاف المستمر بين السلطة والشعب، يضع المسألة في سياقها الاستراتيجي الكبير المتعلق ببناء سوريا المستقبل.

تُشكلُ قضية التسامح مع شخصيات من النظام السوري السابق، مثل فادي صقر، تحدياً استراتيجياً في مراحل بناء الدول الخارجة من الثورات الطويلة والعنيفة كما هو حال الثورة السورية. ذلك أنها تطرح على الدولة والرأي العام معضلةً أخلاقيةً وسياسيةً وعسكريةً بالغةَ التعقيد، تُثير جدلاً واسعاً في الرأي العام السوري. حيث يجدُ السوريون أنفسهم أمام معادلةٍ بالغة الصعوبة: مرارة الدم الغالي الذي سُفك على يد النظام السابق، مقابل الدم الغالي الذي تم توفيره بفضل تعاون بعض رموزه في لحظات حاسمة.

خلفية التحدي والمقدمة العسكرية:

كان فادي صقر، الذي يُوصف بأنه أحد مجرمي النظام السابق، جزءاً لا يتجزأ من هيكله القمعي. ولكن، وفقاً لمعلوماتٍ موثقة، يأتي طرح موضوعه حالياً لكونه عنصراً رئيساً في نقطةِ تحولٍ محورية حصلت أثناء عمليات التحرير، وتحديداً من خلال استراتيجية "غرفة عمليات ردع العدوان". لم تكن هذه الغرفة مجرد قوة عسكرية تقليدية، وإنما تبنت مقاربةً عسكريةً نفسية واستراتيجية تهدف إلى تقليل الخسائر البشرية والتدمير الشامل، وذلك عبر التواصل مع قيادات كبرى في النظام وعرض العفو مقابل تعاون عسكري ومعنوي يُسهم في انهيار النظام من الداخل.



التحليل العسكري: استراتيجية "غرفة عمليات ردع العدوان" وتكتيكات الانهيار الداخلي:

من المنظور العسكري، يعكس هذا التكتيك فهماً عميقاً لديناميكيات الصراعات الداخلية:

  1. تقويض الروح المعنوية والوحدة الداخلية: لم يكن الهدف الأساسي من التواصل مع قيادات النظام يتمثل فقط في الحصول على معلومات، وإنما فوقها لزرع الشك واليأس والانقسام داخل صفوفه. ذلك أنه، عندما تبدأ شخصيات قيادية بالتعاون أو التفكير في الانسحاب، تتآكل الثقة بين المستويات المختلفة للنظام، مما يؤدي إلى انهيارٍ نفسيٍ ومعنوي أسرع بكثير مما يمكن تحقيقه بالقتال المباشر وحده.

  2. استراتيجية "الاقتصاد في القوة": تسعى الجيوش الذكية إلى تحقيق أهدافها بأقل قدر ممكن من الخسائر المادية والبشرية. إن الدفع نحو "انهيار داخلي" بدلاً من "اجتياح شامل" يمثل تطبيقاً كلاسيكياً لهذا المبدأ. فالاجتياح الشامل للمدن غالباً ما يعني حرب شوارع مدمرة، مدنيين محاصرين، وتضحيات هائلة من الطرفين.

  3. شلّ القدرات العملياتية: لقد وفَّرَ تعاون شخصيات، مثل صقر، معلومات حيوية عن مواقع القوات، الخطط الدفاعية، ونقاط الضعف، وصولاً إلى قرارات وحدات معينة بالانسحاب أو عدم المقاومة. وهذا ما أدى إلى شّل قدرة النظام على التماسك وإعادة التنظيم بشكل فعال.



دور فادي صقر المحوري من المنظور الاستراتيجي:

تُشير المعلومات إلى أن فادي صقر كان من بين المستجيبين لهذا العرض. وبالتالي، كان تعاونهُ سبباً جوهرياً في إثارة الخوف داخل صفوف النظام من قدرات قوات غرفة العمليات، مما أدى إلى تدهور معنوي وعملياتي كبير في صفوفه. وقد سهّلَ هذا الانهيار، حسب المعلومات، عمليةَ تحرير سوريا بأقل قدر ممكن من الدم والقتل والخسائر البشرية. ومن الناحية العسكرية، فإن هذا التعاون قد يكون قد حقق مكاسب استراتيجية عظيمة، تفوق بكثير التكلفة البشرية التي كانت ستُدفع في سيناريو المقاومة حتى الرمق الأخير.

التحليل السياسي: معضلة العدالة الانتقالية وبناء الدولة الجديدة:

هنا تبرز المعضلة الأكبر في المشهد السياسي:

  1. التوتر بين العدالة والمصالحة/الاستقرار:

    • مطلب العدالة إن الرأي العام الغاضب من التسامح مع صقر يتمسك بمطلب العدالة الجنائية الصارمة. فمن ارتكب جرائم في الماضي يجب أن يُحاسب، وهذا مبدأٌ أساسي لبناء أي دولة قانون. ذلك أن التنازل عن هذا المبدأ يُفقد الثورة جزءاً من شرعيتها الأخلاقية في نظر الكثيرين، ويخلق شعوراً بالإفلات من العقاب.

    • ضرورة الانتقال السلس: من جهةٍ أخرى، ثمة قاعدةٌ في التفكير الاستراتيجي السياسي تؤكدُ أن الانتقال السلس من نظامٍ شمولي إلى نظامٍ جديد، خاصةً في بيئة مدمرة وممزقة كسوريا، قد يتطلب "صفقات" معينة. هذه الصفقات قد تشمل التسامح مع بعض الشخصيات مقابل تفكيك آلة القمع بشكل أسرع وأقل كلفة بشرية. والهدف هنا هو تقليل الفوضى وتجنب حرب أهلية أطول وأكثر دموية.

  2. الشرعية الشعبية وشرعية الدولة:

    • إن التسامح مع شخصيات مثيرة للجدل قد يُضعف الشرعية الشعبية للحكومة الجديدة، ويخلق انقساماً داخلياً، ويُقلل من ثقة المواطنين في مبادئ الثورة التي قامت من أجلها.

    • ولكن في المقابل، يرى دعاة التفكير الاستراتيجي أن الحفاظ على بنية الدولة ومؤسساتها (ولو عبر "تطهيرها" لا هدمها كلياً)، وتجنب سيناريو الانهيار الكلي الذي رأيناه في دول أخرى (مثل العراق بعد 2003)، ضروريٌ لبناء دولةٍ قوية وفعالة.

  3. التحديات في بناء الثقة والمؤسسات:

    • كيف يمكن للمجتمع السوري أن يلتئم جراحه ويبني ثقته في نظام العدالة الجديد إذا تم التسامح مع مجرمين سابقين؟ هذا التحدي يتعلق بـ "العدالة الانتقالية"؛ وهي عمليةٌ معقدة تتطلب آليات للتعامل مع انتهاكات الماضي، سواء عبر المحاسبة الجنائية، أو لجان الحقيقة والمصالحة، أو برامج التعويض.

    • والتسامح مع شخصيات بارزة قد يبعث برسالةٍ مفادها أن الولاء الجديد هو أهمُّ من الأفعال السابقة، مما قد يُعيق بناء مؤسسات شفافة ومحاسبة في المستقبل.



استمرارية التعاون الأمني كدافع للعفو:

من المبررات الهامة التي تدفع السلطة في سوريا نحو التسامح مع شخصيات مثل فادي صقر هو استمرار تعاونه مع الحكومة في التعامل مع قضايا أمنية حساسة ومعقدة للغاية. هذه القضايا غالباً ما تكون ذات سياقات اجتماعية وثقافية متشابكة يصعب على غير أمثال صقر، ممن لهم معرفة عميقة بخبايا النظام السابق وشبكاته الداخلية والخارجية، تقديم المساعدة الفعالة فيها.

فبعد انهيار نظام طويل الأمد، تبرز تحديات أمنية هائلة تتمثل في:

    • خلايا نائمة ومخلفات أمنية: يمتلك هؤلاء الأفراد معلومات حيوية عن الخلايا النائمة، والشبكات الأمنية السرية، والأفراد المتورطين في جرائم محددة، أو حتى أماكن تخزين أسلحة أو وثائق حساسة.

    • التعامل مع التداعيات الاجتماعية: إن لدى أمثال فادي صقر القدرة على التأثير في مجموعات معينة داخل المجتمع، أو فهم ديناميكيات مناطق جغرافية معينة، مما يساعد في استعادة الأمن والاستقرار بشكل أسرع وأكثر فعالية.

    • المعلومات الاستخباراتية: توجد لدى أمثال فادي صقر خبرة سابقة في بنية النظام وطرق عمله، وكذلك معرفة باللاعبين الإقليميين والدوليين الذين كانوا يتعاملون مع النظام السابق، ومثل تلك الخبرة والمعرفة قد تكون لا تقدر بثمن في بناء أجهزة أمنية جديدة أو مواجهة تهديدات داخلية وخارجية.


لذلك، قد يُنظر إلى التسامح كـ "ثمن" براغماتي لضمان أمن واستقرار المرحلة الانتقالية، والاستفادة من هذه المعرفة والشبكات في حماية سوريا الجديدة من تحديات خفية أو معقدة لا يمكن التعامل معها بالطرق التقليدية
.


مداخل الحلول الممكنة للمعضلة: نحو توازنٍ حساس:

تتطلب معالجة هذه المعضلة مقاربة متعددة الأوجه، تجمع بين الضرورات الاستراتيجية والعدالة الأخلاقية:

  1. توعية الرأي العام بالمعطيات الاستراتيجية:

    • يتُعدُّ شفافية القرار خطوةً أولى حاسمةً في هذا السياق. من هنا، يجب على القيادة الجديدة في سوريا أن تشرح بوضوح للسوريين الأسباب الاستراتيجية والعسكرية التي دفعت إلى هذه التفاهمات. هذا لا يعني تبرير الجرائم السابقة، وإنما شرح كيف أن هذه الخطوات، بالرغم من مرارتها، ربما تكون قد جنبت البلاد والمواطنين، من كل مكونات الشعب السوري، فاتورةً دمويةً أكبرَ بكثير.

    • يمكن عقد جلسات حوار مجتمعية، أو نشر تقارير (غير سرية) توضح حجم التهديد الذي تم تجنبه، والأرواح التي تم إنقاذها، والسرعة التي تم بها الإنجاز العسكري، والتي لم تكن لتتحقق بدون هذه التفاهمات.

    • يمكن للتركيز على المكاسب الجماعية (إنقاذ الأرواح والبنى التحتية) مقابل (التكلفة الفردية: التسامح مع مجرمين سابقين)، أن يساعد في فهم أعمق للخيارات الصعبة التي اتُخذت.

  2. إخراج عملية وجود الشخصيات المتعاونة إعلامياً وشخصياً بطريقة لا تستفز السوريين:

    • الغياب عن الواجهة العامة: يجب أن تلتزم هذه الشخصيات، مثل فادي صقر، بـ عدم الظهور العلني أو الإعلامي في أي مناسبات احتفالية أو رسمية تُذكر بالتحرير أو تُظهرهم في موقع قيادي أو احتفالي. فهذا يقلل من استفزاز مشاعر المتضررين ويُجنّب تصويرهم كـ "أبطال" أو "منتصرين".

    • تحديد أدوارهم: يجب أن تكون الأدوار الموكلة إليهم (إن وجدت) خلف الكواليس، وذات طبيعة فنية أو استخباراتية بحتة، بعيدة عن أي سلطة تنفيذية أو واجهة سياسية. ويجب أن تُركز هذه الأدوار على المساهمة في استقرار ما بعد الصراع وليس في حكم المرحلة الانتقالية.

    • التعويض والعدالة الرمزية: حتى لو لم يتمكن النظام الجديد من محاسبة جميع الجناة بشكل فوري، يمكن إطلاق مبادرات للعدالة التصالحية أو برامج تعويض خاصة لضحايا مثل هؤلاء الأفراد. وهذا يعطي إشارة بأن تضحياتهم لم تُنسَ، وأن العدالة (وإن كانت جزئية أو متأخرة) ستتحقق بشكل أو بآخر.

    • التأكيد المستمر على مبادئ الثورة: يجب على القيادة الجديدة أن تُعيد التأكيد باستمرار على المبادئ التي قامت عليها الثورة: العدالة، والحرية، وكرامة الإنسان، ومحاربة الفساد والاستبداد، مع إعطاء ضمانات بأن أي تسامح هو استثناء استراتيجي لا يُقوّض هذه المبادئ على المدى الطويل.

خاتمة
:

إن قضية فادي صقر ليست مجرد حالةٍ فردية، وإنما هي تجسيدٌ لمعضلة أعمق تواجه أي مجتمع يخرج من صراع دموي: كيف يمكن تحقيق العدالة لضحايا الماضي دون أن يُعرّض ذلك استقرار ومستقبل البلاد للخطر؟ هل تُمنح الأولوية للعدالة الفورية، حتى لو كان ثمنها استمرار الدمار، أم للاستقرار السريع الذي قد يتطلب تنازلاتٍ مؤلمة في ملف المحاسبة؟ هذا التوازن بين المبادئ الثورية والواقعية السياسية والعسكرية هو أحد أصعب الاختبارات التي ستواجهها سوريا الجديدة في سعيها نحو بناء مستقبل مستقر ومزدهر. وهو اختبارٌ لن تمكن مواجهته بغير التواصل الشفاف المستمر بين السلطة والشعب، يضع المسألة في سياقها الاستراتيجي الكبير المتعلق ببناء سوريا المستقبل.
د. وائل مرزا

رئيس التحرير والمشرف العام على موقع معهد العالم للدراسات.

مواد أخرى لـ د. وائل مرزا

ذات صلة