"الاعتراف" دافعاً للفعل: في "الهوية كمُعطى" أخلاقي
للمفكر التونسي فتحي المسكيني كتاب عنوانه "الهوية والزمان.. تأويلات فينومينولوجية في مسألة النحن" حاول فيه استخدام المقاربة الفينومينولوجية لمعالجة مسألة الهوية، أي سؤال "من نحن"؟
و"نحن" المقصودة تعني بطبيعة الحال العرب المسلمين الذين يعيشون في هذه العصور الحديثة، والميزة التي تمنحها المقاربة الفينومينولوجية لإجابة سؤال من هذا النوع هي البحث في الهوية كما يتمثّلها العربيّ الحديث في وعيه، وكما تتجلّى كتجربةٍ ذهنية وكتجربة يوميّة على السواء، بعيداً عن الحدود والتعريفات الفلسفيّة، أو المفاهيم الاجتماعية والثقافية ذات الطابع الوظيفي الذي تفضّل استخدامَه العلومُ الاجتماعية.
ولن يكون مستغرباً بعد بحث وافٍ أن نخلصَ إلى أنّ الـ"نحن" العربيّة متنوّعة المصادر وتبدو للعرب المعاصرين في تجليّات شديدة التنوّع والتركيب، ولن تبدو هذه المصادر شديدة الانسجام في كثير من الأحيان -وهذا ما لا يُزعج المقاربة الفينومينولوجية التي تنزع إلى التوصيف ولا تحرص كثيراً على حل التناقضات- فقد تتبدّى الـ "نحن" للعربيّ حينا على هيئة جماعة متجاوزة للتاريخ اسمُها "المسلمون"، فيبدو للعربيّ الحديث أنّه جزءٌ من جماعة ممتدّة من النبيّ إلى أصحابه إلى أئمة المذاهب إلى التقاليد المستمرّة منذ زمنهم إلى اليوم، وقد تتجلّى الـ "نحن" للعربي اليوم باعتبارها الانتماءَ إلى أمة ٍعربيّة يجمعُها اللسان والثقافة والتشكيل الجيوسياسي والمصير المشترَك، وقد يرى العربي الـ "نحن" في انتمائه الوطنيّ، أي إلى الجماعة المصرية أو السوريّة أو المغربية، مع ما يستتبعُه هذا الانتماء من جيرةٍ وقرابة ووحدة في المجال السياسيّ الاقتصادي وجملة من التفاوتات والتناقضات الطبقيّة والريف-مدينية وغيرها، وقد تتجلى الـ "نحن" للعربيّ في صورة انتماء إلى الإنسانية الحالية، وتقودُه بالتالي إلى البحثِ عن الأخلاقيات المشتركة معها، من قبيل قضايا حقوق الإنسان والتحوّل البيئي والأزمات الاقتصادية العالمية والتكنولوجيا العابرة للقارات.
وما نؤكّدُه هنا ولا نعتبرُه جديداً، هو أن أيَّ ضربٍ من التجلّي الفينومينولوجي للـ "نحن"، أو لـ"الهوية"، يؤدّي بالضرورة إلى أنماط متميّزة من التفكير والسلوك، فالشكل الذي يتمثّل فيه المرء هويتَه وما تعنيه "نحن" بالنسبه إليه، يأخذ منحىً أخلاقيّاً وسلوكيّا يتجاوز الأخلاق الفردية ويتجاوز ما يعتقدُه الفرد على مستواه الشخصيّ بخصوص ما يراه خطأ أو صواباً، فضيلةً أو رذيلة. فكلّ انتماءٍ للمسلمين كجماعةٍ فوق-تاريخية، أو للعرب كقومية، أو للجماعة الوطنيّة، أو للإنسانية، يأخذ شكلاً أخلاقيّاً وسلوكيّاً، وتتنوّع أخلاقيّات الفرد وسلوكيّاته بقدر التنوّع الذي يتمثّل فيه الـ "نحن" التي تخصّه، ويمكن أن تتعارض أخلاقياته وسلوكاته بقدر ما تتعارض تجلّيات الـ "نحن" التي تتبدّى له.
غير أنّ ما قد يكون جديداً وما نحاول طرحَه في هذا المقال، هو المحاججة بأن ما سنسمّيه الاعتراف "Recognition" يترسّخُ بشكل متزايدٍ باعتبارِه أحدَ الدوافع المستقلّة للفعل البشريّ، وأنّه يختلف نوعيّاً عن الدوافع التقليديّة للفعل، من قبيل رضا الإله، أو خير الجماعة، أو المنفعة، أو تحقيق الذات لنفسها وتجاوزها لنفسها. وسنحاول بعد هذه المحاججة اكتشاف ما للإعلام من دورٍ خطيرِ في تشكيل هذا الدافع الأخلاقيّ المستقلّ والمستجدّ.
"الاعتراف" باعتباره دافعاً أخلاقيّاً ذا طبيعة فينومينولوجيّة
نقصد بـ "الاعتراف" معنيين متداخلين، كلاهما مُتضمَّنٌ في مدلول الكلمة اللغويّ، هما:
أولاً: إقرارُ الآخرين بأنّ فِعلاً ما هو فعلٌ ينطوي على قدرٍ ما، قد يدِقّ أو يعظُم، من الأخلاقيّة والمشروعيّة.
ثانياً: إقرار الآخرين بأنّ جماعةً معنويّة ما قامت أو تقوم بهذا الفعل لدافعٍ أخلاقيّ ما، أي نسبة الفعل إلى هذه الجماعة المعنويّة نسبةً تؤكّد قيامَها بها، وأن قيامَها به كان منطوياً على رؤيةٍ أخلاقيّة ما.
ويمكن سَوقُ أمثلةٍ كثيرة على الاعتراف بهذا المعنى، مثل الاعتراف بأنّ مقاومة شعبٍ خاضع للاحتلال لمحتلّيه مقاومةٌ مشروعة، وأنّهم يقاومون لدافع أخلاقيّ، أو الاعتراف بأن شعباً ما يثور على طاغية مستبدّ مستنِداً إلى موقفٍ أخلاقيّ، أو الإقرار بأنّ أهل ديانةٍ ما يُمارسون فعلاً ما اعتماداً على رؤيةٍ أخلاقية وجيهة تعتبره مرغوبا ومُحبَّذاً.
نُحاجج هنا أن "الاعتراف" ذو طبيعةٍ مزدوجة، فهو من ناحية دافعٌ أخلاقي مستقلّ، وعلينا لإثبات ذلك أن نبيّن استقلاله عن الدوافع الأخرى، وهو من ناحيةٍ أخرى، ذو طبيعة فينومينولوجية، أي أنّه دافعٌ لا يحتاج من أجل أن يؤثر في الفعل إلى أن يكون له عائدٌ مباشرٌ على الفرد، بل يكفيه أن يُشعرَ الفرد بأنّه ينتمي إلى "نحن" متميزة، "نحن" تقوم بهذا الفعل الأخلاقيّ، ويغنيه انتماؤه لهذه الـ "نحن" عن أن يكون الاعتراف متّجهاً بالتحديد إلى فعله هو، بل يكفيه أن يقع الاعتراف بالفعل عموماً، بفعل الـ "نحن" التي ينتمي إليها.
لإثبات كلّ من وجهَي الاعتراف هذين، سنستعين بمثالٍ أخلاقيّ شديد الأهمّية، يتزايدُ طرحُه باستمرار، هو أخلاقيّات التعامل مع اللاجئين، حيثُ تأخذ هذه القضيّة أبعاداً شديدة التعقيد يتداخلُ فيها الأخلاقيّ والسياسيّ والقانونيّ، وما تزال مصائرُ اللاجئين السوريّين مثلاً، وتعاملُ شعوب العالم وحكوماته معهم، موضوعاً شديد التعقيد ومتعدّد الشجون.
تبدو أزمة اللاجئين السوريين مثالاً جيّداً للطريقة التي يعمل من خلالها "الاعتراف" باعتباره دافعاً للفعل، خصوصاً من خلال مقارنة تفاعلات أزمة اللاجئين في بعض الدول التي لجؤوا إليها. فمنذ أن بدأ الإعلام يُسلط الضوء على دور ألمانيا، مثلاً، في استقبال اللاجئين واستيعابهم، والمديح الذي بدأ العرب يكيلونه لألمانيا على تعاملها الإنساني المفترض مع اللاجئين، والمقارنة الضمنية أو الصريحة بين ألمانيا والدول العربيّة في هذا الصدد، بدأ بعض العرب والمسلمين يشعرون بالغبن، إذ استوعبت دولٌ عربية وإسلامية أضعاف ما استوعبته ألمانيا من اللاجئين، ومع أن هذا الشعور بالغبن يكفي وحده للفت نظرنا إلى "الاعتراف" باعتباره دافعاً للفعل، إلا أننا سنتجه إلى مزيد من التحليل.
حظيت الأردن بالنصيب الأكبر من اللاجئين، والمتابع المنصف يعلم أن كثيراً من الأردنيين أفراداً ومؤسسات بذلوا كثيراً من أجل السوريين، مادياً ومعنويّاً، ويعلم المتابع المنصف أيضا أنّه وُجد كثيرون ممن ضجروا باللاجئين وأثرهم على فرص العمل وغلاء المعيشة وأسعار الإسكان والعقارات. ورغم اعتراف كثيرين بأن هناك مزاجاً عاماً ضَجِراً بالأزمات التي خلقها وجود السوريّن في الأردن، إلا أنهم رغم ذلك شعروا بالغبن من عدم الاعتراف بالخير الذي فعله الأردنيون تجاه السوريين.

كان لافتاً جداً أنّ غياب الاعتراف جعل كثيرين ممن قاموا بفعلٍ أخلاقيّ خيّر لا جدال فيه، هو إعانة لاجئ مظلوم، يتشكّكون في خيريّة فعلهم، أو في جدواه، أو حتّى في وقوعه فعلاً. بدا أنّ الفرد الذي يفعل الخير يظلُّ يشعر بقدرٍ من عدم الجدوى إذا لم يقع الاعتراف بفعله، حتى ولو كان يؤمن بإلهٍ يرى ويسمع ويُجازي بالإحسان إحساناً، وحتى لو كان يرى أثر فعله الخيّر على الإنسان الذي أعانَه. ربما ليس مُستغرَباً أن يكون هذا سلوك الحكومات، التي تسعى دائماً إلى إبراز أدوارها الإنسانيّة حتّى ولو كان لها غايات سياسيّة، وإلى الحرص على توثيق تكاليف أيّ دور إنساني تضطلع به، لتقبض ثمنه مادّيا وسياسيّا، لكنّ المستغرب أن هذا الدافع – الاعتراف- كان ذا حضورٍ بارز لدى الأفراد، الذين جرت العادة أن تكون دوافعُهُم الأخلاقيّة مختلفة، من قبيل رضا الإله أو رضا الضمير أو تماسك المجتمع أو تحقيق منفعة ما أو تحقيق معنىً ما للإنسانيّة بإسعادِ إنسان آخر.
أما بخصوص الطبيعة الفينومينولوجية لدافع الاعتراف، فتتبدّى جليّةً في الأثر الكبير الذي يتركُه الاعتراف بأخلاقيّة فعلٍ ما لدى أمة أو جماعة بشريّة على التخصيص، حتى ولو لم يقع الاعتراف بفعل كلّ فردٍ من هذه الجماعة على حدة.
يبدو هذا واضحاً في الرضا الذي يصنعُه تعريف شعبٍ ما على أنه مضياف للاجئين وإنسانيُّ التعامل معهم، فوجود سرديّة عامّة تقول: "نحن نتعامل مع اللاجئين بإنسانية، هكذا "نحن"، هذا هو "نحن"، ولا يمكن أن نفعل/نكون خلاف ذلك" كفيلٌ بأن يمنح المنتمين إلى هذه الجماعة دافعاً أخلاقيّاً لتأكيد هذه الصورة عن الذات، والاستمرار في ممارسة هذا الفعل الأخلاقيّ. أما في غياب سرديّةٍ من هذا النوع، فقد يبدو الفعل الأخلاقيّ ضائعاً أو غير ذي جدوى، ولعلّ كثيرين ممن لم يقوموا بهذا الفعل الخيّر، كانوا سيقومون به لو وُجدَت هذه السرديّة، حتى في ظلّ وجود الدوافع الأخلاقية الأخرى نفسها في الحالين.
بمعنىً آخر، يبدو باضطرادٍ متزايد أن الاعتراف مستقلٌّ عن سائر الدوافع الأخلاقية التي نعرفُها، فهو مستقلٌ عن رضا الخالق –التفسير الميتافيزيقي الديني للأخلاق- وعن فعل الخير من أجل الصالح العام –التفسير الاجتماعي أو ميتافيزيقا الجماعة- وعن فعل الخير من أجل المنفعة –بالمعنى البنتامي- وعن فعل الخير من أجل تحقيق الذات وتجاوزها –المعنى النفسي الهيوماني حسب مازلو- وما يمكن أن يكون دليلاً على ذلك هو أن كثيراً من الأفعال الخيّرة تحظى بنصيبِها من هذه الدوافع، لكنّ إنسان اليوم يظلّ يشعر بنقصان الجدوى إذا لم يقع الاعتراف العام، الإعلامي خصوصاً، بأنّ هذه الأفعال فضائل، وإذا لم توجد سرديةٌ عامة تُحقّق للفرد شعوراً بالانتماء إلى "نحن" تتبنّى هذه السرديّة.
بالتّالي، فسؤال "هل هذا الفعل خيرٌ وفضيلة؟" يخرج بوجهٍ ما من دائرة الأخلاق إلى دائرة الانتماء الجماعيّ، أي يُصبحُ سؤال هويّة مضمونُه: "هل هذا هو "نحن؟"، فلم يعد يكفي الفردَ أن يكون مُتاحاً له فعلُ هذا الخير، بل صار يُزعجُه اختلاف الآخرين معه في مدى خيريّة هذا الفعل، ويتحوّل الأمر من انصرافٍ إلى فعل الخير، إلى دفاع عن الحقّ في فعل هذا الخير، إلى الدفاع عن كون هذا الفعل خيراً، إلى دفاعٍ عن كون الجماعة التي تقوم به خيّرة.
دور "الإعلام" في ترسيخ الاعتراف دافعاً أخلاقيّاً
لم يعد نادراً ولا مُستغرَباً أن تُقيَّمَ أخلاقيةُ القضايا بمدى الاعتراف الإعلامي بها، ولا أنّ كثيراً من المناضلين في سبيل قضايا متنوّعة يصرفون جزءاً معتبَراً من وقتهم وجهدهم ومصادر تمويلهم على "إيصال صوتهم"، وأنهم كثيرا ما يشعرون بعدم الجدوى حين لا يحظون بـ "الاعتراف".
ومن الملحوظات شديدة الدلالة أن "الاعتراف" لم يعد يُكتَفى منه بالقدر الذي تحتاجه كلّ قضية لحشد المؤيدين لها، وتحويلِ موقفِ من يؤثّر موقفهم فيها باتّجاه دعمِها، بل غالباً ما يتعدّى الأمر ذلك إلى حجمٍ من الاعتراف يتجاوز كثيراً ما تحتاجه القضية الأخلاقيّة لتأتي بأثرها المطلوب من إحقاق حق أو إزالة ظلم أو إسعاد إنسان.
وللإعلام دورٌ وثيق الصّلة بالطابع الفينومينولوجيّ للاعتراف، فالإعلام فاعلٌ أساسيّ في تغذية الانتماءات السابق ذكرُها، فيمكن للإعلام أن يغذّي شعور العربيّ بانتمائه الإسلامي ويُبرزَ علاقته بهذه الجماعة المتجاوزة المسمّاة "المسلمون"، وبما يقوم به المسلمون من أفعال أخلاقيّة لأنّهم مسلمون. ويمكن له كذلك أن يُبرز روابطَ اللسان والثقافة مع العرب كقوميّة، وما ينبغي للعربيّ أن يضطلعَ به من دور أخلاقيّ باعتباره عربيّاً. ويمكن له أيضاً أن يُغذي نزعتَه الوطنيّة بإبراز التقاليد المشتركة والأغاني الوطنية والتراث الشعبيّ، ويعزّز بالتالي الأدوارَ الأخلاقيّةَ التي ينبغي أن ينهض بها المصريّ باعتباره مصريّاً، أو السوريّ لأنه سوريّ، أو المغربيّ لكونه مغربيّاً، وهكذا.
بالتّالي، فقضيّة الاعتراف تأخذ تشكّلاتٍ متّسعة في الفضاء العامّ، الإعلاميّ خصوصاً، ويبدو أنّه سيتزايد دورُها في الجواب عن سؤالي "ما الخير والفضيلة؟" و"من نحن؟"، ويتزايد كذلك دورُها في دمج السؤال الأول في الثاني، أي تحويل سؤال الخير من سؤال أخلاقيّ إلى سؤال هويّة. وسيكون مهمّاً جداً النظر في مالهذه الانتماءات الهووية من أثرٍ وتفاعلات، خصوصاً بالنظر إلى ما يعتري فضاء الإعلام من تحولات سريعة، وسيولة متزايدة في صيغ ومقوّمات الاعتراف.

همام يحيى
باحث وشاعر فلسطيني ، مهتم بقضايا الفكر والفلسفة.