الطائفيّة في سوريا: تأمُّلات أنثروبولوجيّة

09 كانون1/ديسمبر 2016
 
ترجمة: حبيب الحاج سالم

على مدى سنتين من النضال، استمر النشطاء السلميّون المناهضون للنّظام في الهتاف من أجل الوحدة السوريّة: "واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد".
أمّا الآن، فقد انتقلت الدعوة إلى الوحدة إلى مواقع الإعلام الاجتماعيّ بعد أن حلّ النزاع المسلّح محلّ الاحتجاج السلميّ، وهو نداء يعكس وينبذ مشاعر متناقضة.

فقد بدأ الصراع بتظاهرات سلميّة مطالبة بالديمقراطيّة، ليتطوّر لاحقاً إلى حرب أهليّة تُؤثّر فيها التمايزات الطائفيّة على نحو متزايد في خطابات كلّ من الثوّار والمساندين للنظام. ويشكّك الإعلام الغربيّ في دور الطائفيّة، ويستدعي علماء سياسة معنيّون بالسياسات ومحلّلين منتمين لمراكز تفكير، وهم المهيمنون على الأدبيّات حول سوريا وشؤونها، للتأكيد على أنّ القضايا الحقيقيّة لا علاقة لها بالطائفيّة، بل هي مرتبطة بالأحرى بالسلطويّة المداومة، والاقتصاد السياسيّ، والعلاقات الخارجيّة. أما علماء الأنثروبولوجيا، فنادراً ما يشتغلون ضمن هذا الإطار المرجعيّ. ومع ذلك، فإنّ الاستقصاء الإثنوغرافيّ حول الكيفيّة التي يُدرك بها السوريّون الاختلافات القائمة على الدين وكيفيّة عيشها وإعادة تشكيلها، بإمكانه توضيح المسائل المثارة، والتي لا تحظى في الأغلب بإجابات شافية في النقاشات المعنيّة بالسياسات.

لقد أظهر عملنا الميدانيّ في بداية عقد التسعينات أنّ الانتماءات الطائفيّة بصدد معاودة الظهور، ممزوجة بانتماءات طبقيّة ومناطقيّة، في شكل ممارسة اجتماعيّة أسميناها "نَظْمُ الاتّهام"([i]). وقد أدّت سياسة المحافظة على التراث، والنهوض به والترويج له، إلى بروز تلك التمايزات. فغالباً ما كانت النّقاشات حول التحركات من أجل المحافظة على دمشق القديمة والاحتفاء بها والعمل على حضورها في الفنون والإعلام الجماهيريّ، تُطلق سيلاً من العداء تجاه العلويّين الأقوياء القادمين من خلفيّات ريفيّة والذين يُزعم أنّهم يسعون إلى تدمير دمشق القديمة وتقويض أشكال السلطة التي تحظى بها نخبها المنبوذة سياسيّاً. وعلى نحو معاكس، يُؤكّد المستبعدون من دوائر النخبة الدمشقيّة، وتحديداً المنتمون إلى المجموعات الأقليّة، على التزاوج بين النظام والمصالح التجاريّة الدمشقيّة – بما في ذلك علاقات زواج ومصاهرة فعليّة – ويُشدّدون على استفادة رجال الأعمال السنّة الحضّر بشكل يفوق بكثير استفادة العديد من العلويّين القرويّين. أما النقد اللاذع، فلا يستهدف النظام مباشرة، الذي يعد المذنب الرئيسيّ، بل مجموعات أخرى من السوريّين الذين اعتُبروا مستفيدين من الوضع القائم ومساهمين في إدامته.


يُسند آخر بحوثنا حول أهمّ الفاعلين في الصناعة الثقافيّة في سوريا، أي الدراما التلفزيّة، مثل هذا التأويل. فالتعبير عن عدم الرضا وخيبات الأمل يتمّ في كثير من الأحيان من خلال تعبيرات طائفية، فنجد أنّ صناعة الدراما الخياليّة السوريّة – التي يُطلق عليها "مجال الفنّ" في غياب منافذ أخرى مرخّصة للتعبير الثقافيّ - تعكس التمايز الطائفي وتنقده في آنٍ. وعلى غرار قطاعات أخرى في المجتمع السوريّ، تنظر شخصيّات الصناعة التلفزيّة إلى الانتماءات الطائفيّة كمحدّد للنفاذ إلى مراكز القوّة والتأثير. ويجادل بعض صنّاع الدراما الناقدين لواقع هذه الصناعة بأنّها تُجسّد الاندماج بين المصالح الدمشقيّة ومصالح النظام. وهم يشيرون بالخصوص إلى بعض الضباط السامين المنتمين إلى الأجهزة الأمنيّة التي يهيمن عليها العلويّون، والذين يتصرّفون كرعاة لمنتجي دراما في القطاع الخاصّ ينحدر بعضهم من طبقة التجّار في المدن القديمة([ii]). وبالفعل، فإن أكثر صادرات تلك الصناعة شعبيّة، والتي تبثّ على الفضائيّات التي تملكها دول التعاون الخليجيّ، هي استحضار حنينيّ لدمشق القديمة في بداية القرن العشرين، على غرار المسلسل الرائج متعدّد الأجزاء "باب الحارة"([iii]). ويرى صناع دراما آخرون أنّ تسليع الصناعة يعكس عقليّة زراعيّة – أو على العكس عسكريّة – تقوّض المثل التقدميّة لمثقّفي المدن التي تغذّي الأعمال الواقعيّة الاجتماعيّة المعاصرة. وتميّز الدراما الاجتماعيّة التي تصوّر دمشق الصناعة السوريّة، لكنّ تمويلها يزداد صعوبة.


مشهد من باب الحارة

لقد نسبنا نَظْمَ الاتّهام إلى التناقض الموجود بين المشروع المعلن لحزب البعث من أجل تخليص سوريا من التمايزات تحت الوطنيّة، وبين سياسات نظام الأسد التي فاقمتها، وهي مفارقة عميقة لم تغب عن السوريّين الذي تعرفنا عليهم. إلاّ أنّ ملاحظتهم وجود سياسة تقسيم متعمّدة، لم تحل دون وقوعهم تحت تأثيرها. وقد أشرنا في كتاباتنا إلى الآثار المترتبة عن كلّ الانشقاقات سواءً المدركة أو الواقعيّة، وحذّرنا من الخلط بين وجود دولة قويّة وبين الإحساس بالانتماء إلى أمّة([iv]). ورغم ذلك، فكثيرا ما قُرئت تحاليلنا لحالة التداخل السوريّة المعقّدة على أنّها غير منسجمة بالقدر الكافي مع "السياسة". لقد قرأ بعض الزملاء (الذين أفضّل عدم ذكر أسمائهم) إشارتنا إلى الخطاب الطائفي بمعنى إعلاء التمايز البدائيّ على تمايزات أكثر ديناميكيّة. ورأى البعض الآخر أنّنا بالغنا في وصف حالة الشقاق، وبذلك فشلنا في إدراك التوافق الاجتماعيّ الكامن وراء النزاع الذي وثّقناه. ومع ذلك، فإنّ التمايزات الطائفيّة التي تُلمع إلى الاختلاف الطبقيّ والمناطقيّ، تُغذّي الآن صراعاً عنيفاً ومتفاقماً، وتستدعي إعادة النظر في تاريخها القريب.


لقد غذّت كلبتوقراطيّة(*) آل الأسد، التي شيّدت نفسها على مرّ أربعة عقود، التصوّرات حول الامتياز الطائفيّ. إذ شهد قسم صغير من الطائفة الشيعيّة العلويّة الخارجة عن الإجماع – التي تمثّل الآن بين 10 و15% من السّكان – اكتساباً مذهلاً للثروات ما يزال حاضراً في الذاكرة الحيّة. فقبل ستّينات القرن العشرين، هيمنت نخبة العائلات الحضريّة – الدمشقيّة والحلبيّة بالأساس – على الحياة السياسيّة والاقتصاديّة في سوريا. ولم يتشارك العلويّون في الكثير مع غالبيّة السّكان، عدا ارتباطهم بالمسلمين السّنة. وقد انتقلت السّلطة السياسيّة، مع هيمنة حزب البعث عام 1963، إلى أيدي نخبة سياسيّة ريفيّة في معظمها ويتكوّن أغلبها من العلويّين، فيما تمّ إزاحة الحلبيّين والدمشقيّين من المناصب الحسّاسة بطريقة ممنهجة، وتمّ إجبار البورجوازيّة الحضريّة على المتاجرة مع من كانوا سابقاً أدنى منهم في المرتبة الاجتماعيّة: أي علويّو القرى الساحليّة الذين كانت بناتهم إلى وقت قريب يخدمن العائلات الدمشقيّة. ونشأ عن ذلك سلام بارد، ثبّتته المصالح المشتركة، لكن شابه امتعاض متبادل. فقد كانت كلّ جماعة تفترض تمتّع الجماعة الأخرى بالأفضليّة: حيث يشير العلويون إلى الازدهار الثابت الذي يحظى به "أمراء التجارةّ الدمشقيّين"؛ ويشير الدمشقيون إلى سيطرة العلويّين على منح التراخيص والتهريب.


إنّ أغلبيّة العلويّين يعانون من ربط خاطئ بينهم وبين الامتيازات. ويعترف السنّة الحضّر أحياناً بأنّ الكثير من العلويّين ما زالوا مفقّرين. ومع ذلك، فقد غدت فكرة أنّ "جميع العلويّين مرتبطون بالسّلطة" لازِمة متكرّرة حتى في صفوف المثقّفين. ويتضمّن مصطلح "علويّ"، علاوة على إحالته على التشيّع الخارج عن الإجماع، إحالات طبقيّة ومناطقيّة؛ حتّى أنّنا نجد لا دينيّين معلنين يطلقون اتهامات طائفيّة في حقّ بعضهم البعض. وقد تكثّف ذلك خلال الصراع. وكما صرّح لنا صديق دمشقيّ، فإنّ الناس لم يعودوا يخافون من نقد النظام؛ لكنّهم الآن يخافون من بعضهم البعض. فخطابات الاستياء، التي تغذّيها تركيبة تشمل الخطابات الرسميّة المزدوجة، ونفاذ غير متوازن للخيرات، وإسلامويّون راديكاليّون منفيّون، تغرس الخوف في صفوف الأقليّات والعلمانيّين السّنة على حدّ سواء. وعلى نحو مفارق، تباطأت النخب الحضريّة، التي لطالما استاءت مما اعتبرته سلطة العلويّين محدثي النعمة، في دعم المعارضة، فقد تعلّمت العيش (على نحو جيّد) ضمن الوضع القائم، وتخشى بدائله الممكنة.


إذ يفزعُ العلمانيّون، ومن بينهم مؤمنون سنّة يرفضون أسلمة الحياة العامّة، من تأثير السلفيّة المتزمّتة التي قد تصاحب المعارضة المدعومة من السعوديّة وقطر، ويقلقهم صعود الإسلامويّين في تونس ومصر بعد الثورة. كما يحجب التدفق الحديث للمليشيات المرتبطة بتنظيم القاعدة العناصر الديمقراطيّة والعلمانيّة المرتبطة بكلّ من النشاط السلميّ والتمرّد المسلّح، فيما يخشى القوميّون الراسخون تدخّل قوّات الحلف الأطلسي. أمّا أغلب السوريّين، وهم السنّة الحضّر والريفيّون الذين يعانون اضطهاداً لا يلين، ونيوليبراليّة بلا ضابط، وجفافاً مدمّراً، فإنّهم لن يخسروا إلاّ القليل. وقد غذّى شباب الطبقة الدنيا صفوف المحتجين السلميّين، وميليشيات المعارضة، والشبّيحة، والعصابات المسلّحة التابعة لأنصار النظام.


وبالنظر إلى التعتيم الإعلاميّ، فإنّه من الصّعب قياس حجم الدعم الذي تحظى به المعارضة. وفيما يسرع المتنطعين إلى تقديم نسب وأرقام؛ يعترف العارفون منّا بسوريا، والسوريّون الذين نتحدّث إليهم، باستحالة تعيين درجة الدعم الذي يحظى به النظام أو المعارضة، فهي في تبدّل دائم. وفي ما يخصّ مفهوم الأغلبيّة الصامتة الذي يُستحضر غالباً في الكتابات الصحفيّة، فهو يغطّي أكثر ممّا يكشف. وما من واضح إلاّ مسألة واحدة: فكما هو معهود في الحروب الأهليّة، لم يفتّت النزاع المناطق والطبقات والطوائف الدينيّة فحسب، بل فرّق أيضاً بين الأصدقاء والعائلات. ولعلّ الحديث عن وجود انقسام ثلاثيّ، والذي قدّمه صديق سوريّ في بداية الصّراع، من شأنه إلقاء الضوء حول الموضوع:


إن والدي، الذي لم يستفد قطّ من النظام، يسانده مائة بالمائة، وهو يرى أنّ المظاهرات جزء من مؤامرة أجنبيّة، بينما اعتقل أخي خلال المظاهرات. والدي يشاهد قناة الدنيا (المساندة للنظام)، ويشاهد أخي قناة الجزيرة، وأظنّ أنّ كلا القناتين تكذبان. توجد الكثير من الأسر المنقسّمة([v]).


وعلى غرار كثيرين يسوؤهم حاضر سوريا ويهمّهم مستقبلها، فإنّنا نُنشد سُبُلاً تكون بمقتضاها الإحاطة بالطائفيّة، وجميع الانقسامات التي تختصرها، موحِّدة للأمّة بدل أن تكون مقسِّمة لها في فترة ما بعد الحرب. فقد أعطت الانتفاضة للسوريّين حريّة الاعتراف بالانقسامات الطائفيّة ومناقشتها وتجاوزها، وهي التي كانت موضوعاً محظوراً حين كانوا صامتين. وإنّ فهم خطوط التصدّع هذه، يجب أن يُثري جهود المصالحة التي نأمل أن يساهم فيها الأنثروبولوجيّون وغيرهم.


________________


* كلبتوقراطيّة (kleptocracy): هي كلمة يونانيّة مركبة من "كلبتو" التي تعني لصوص و"قراطيّة" التي تعني حكم، أي حكم اللصوص. ويستخدم المصطلح في سياق توصيف حكام فاسدين يستخدمون سلطتهم لاستغلال موارد السكان والموارد الطبيعيّة لتوسيع ثروتهم الشخصيّة وسلطتهم السياسيّة.


المراجع:

i] C. Salamandra, A New Old Damascus (2004), p. 22].
[ii] حوارات وأعمال ميدانيّة منجزة بين سنتي 2004 و2013.
[iii] حلقات مختارة من باب الحارة، للاطلاع عليها انظر (اطلع عليها بتاريخ: 17/08/2013): الرابط
[iv] C. Salamandra, Moustache hairs lost (1998), pp. 227–246; C. Salamandra, Consuming Damascus (2000), pp. 182–202.
 [v] رسالة خاصة، تلقيناها في نيويورك بتاريخ 20/08/2011.

الإحالات:
                                                                                                                               
Salamandra, C. (1998) Moustache hairs lost: Ramadan television serials and the construction of identity in Damascus, Syria, Visual Anthropology, 10(2–4), pp. 227–246.
———. (2000) Consuming Damascus: Public Culture and the Construction of Social Identity, in: Walter
Armbrust (Ed.) Mass Mediations: New Approaches to Popular Culture in the Middle East and Beyond, 182–202 (Berkeley: University of California Press).
———. (2004) A New Old Damascus (Bloomington: Indiana University Press).
 
مصدر النّص:
Christa Salamandra (2013) Sectarianism in Syria: Anthropological Reflections, Middle East Critique, 22:3, 303-306

حبيب الحاج سالم
مترجم وباحث من تونس، مجاز في اللغة والآداب والحضارة الإنكليزية ويواصل دراسة الماجستار في نفس الاختصاص، له مقالات وحوارات مترجمة منشورة على الإنترنت وفي بعض المجلات الثقافية والكتب.
كريستا سلمندرا

أنثروبولوجية أميركية تدرس في كلية ليمان ومركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. لها العديد من الدراسات الأنثروبولوجية حول سوريا، كما أنها أصدرت كتابا في نفس السياق تحت عنوان "دمشق القديمة الجديدة: الأصالة والتميز في المناطق الحضرية السورية".