الحجاب والهاتف المحمول: المراهقون في ظل حكم بشار الأسد

10 كانون2/يناير 2017
 
المترجم: وحدة الترجمة في معهد العالم للدراسات.

في سياق دراسته "الأنثروبولوجيا إزاء الصراع السوري/نشرت ترجمتها على موقع معهد العالم"، يؤكد الأنثروبولوجي الفرنسي تييري بواسييه على أن الصراعات والحروب لا تؤدي فحسب إلى تدمير الحاضر والتشكيك بالمستقبل، بل كذلك تساهم في هدم الماضي وذاكرته.
من هنا يعتقد بواسييه أن تأسيس أي معرفة أنثروبولوجية جديدة للمجتمع السوري المدمر، وللتغيرات الطارئة والعميقة التي فرضها العنف اليومي في حياته، لا يمكن تمييزها بشكل دقيق واعتبارها ظواهر ناتجة عن الحرب، دون أن تكون هناك إحاطة دقيقة بالتحولات التي شهدها المجتمع السوري في مرحلة ما قبل الحرب.

وانطلاقاً من هذا الملاحظة الأنتربولوجية العميقة، يمكن القول أن هذا النص الجديد، والذي يعد النص الثاني ضمن سلسلة نصوص كتاب "سوريا حاضراً: انعكاسات مجتمع"، الذي كنا قد حصلنا على حقوق ترجمتها عن دار سندباد الفرنسية، هو واحد من النصوص الجديرة بالقراءة والاهتمام، كونه ينشغل بكتابة التاريخ الأنثروبولوجي للحجاب في سوريا في مرحلة ما قبل الحرب.

إذ تسعى مؤلفة البحث ليلى هدسون/أستاذة انتربولوجيا الشرق الأوسط في جامعة أريزونا إلى دراسة علاقة المجتمع السوري بالحجاب وأشكاله الجديدة من خمسينيات القرن العشرين إلى فترة حكم بشار الأسد التي سبقت فترة الحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد، من خلال دراسة ميدانية أجرتها على أفراد أسرة سورية بأجيالها المتعاقبة. وهو ما أفسح المجال لفهم أدق لأشكال التدين اليومية التي شهدتها البلاد خلال العقود الأخيرة، خاصة أن الكاتبة استطاعت أن تبين طبيعة العلاقة المعقدة بين أشكال الحجاب المختلفة وتحولاتها عبر الزمن في سوريا، مع أشكال وطبيعة التعبير عن التدين داخل المجال العام السوري خلال العقود التي سبقت الحرب. وربما هنا تكمن أهمية هذا البحث، خاصة أنه يأتي ضمن اهتماماتنا في المعهد بتكوين رصيد معرفي من الأبحاث والترجمات حول حالة التدين والمؤسسات الدينية في سوريا خلال القرن الأخير، وهي ساحة ما تزال بكراً وربما تحتاج مننا اليوم إلى الأخذ بالمستجدات والأدوات البحثية الجديدة على مستوى العلوم الإنسانية والتي طورها العديد من الباحثين الغربيين في السنوات القليلة الماضية حيال الحقل الديني في سوريا، بدل الاستسلام للمقاربات التقليدية والأيديولوجية.... رئيس التحرير.

سوريا حاضراً: انعكاسات مجتمع (2-10)
الحجاب والهاتف المحمول: المراهقون في ظل حكم بشار الأسد
 
تدفع الثقافة الاسلامية الرائجة بين الأسر المسلمة السّنية ذات الدخل المتواضع الأطفال إلى سنّ الرشد - من التبعية والخضوع إلى الاستقلال- دون المرور والاعتراف بمرحلة المراهقة، والتي تعتبر مرحلة تجريبٍ واختبار. بينما تدفع الدولة ومؤسساتها العلمانية- المدرسة ومجموعات الشباب والجيش- بقوة نحو الاتجاه الآخر، اذ تتيح حيّزاً للمراهقة وللثقافة التضامنية بين الأقران المرتبطتان بالدولة، واللتان تسعيان إلى حشد طاقات هؤلاء الشبان في خدمة الدولة- الأمة. ألم تنطلق الحياة السياسية لحافظ الأسد، كمعظم القوميين والبعثيين الأوائل، في المرحلة الثانوية؟ وبالرغم من هذا المجال الحيوي للتوتر بين الدين والدولة، فمازال هناك فعلاً مجال لاستكشاف الهويات الفردية الناجمة عن تقلبات الاقتصاد. هذا المجال الذي يعمل فيه الشبان والفتيات، وحيث يكون الحجاب ومدلوله الجديد يهيمنان على المشهد العام، وحيث تحدّد فيه السلع الاستهلاكية، وخاصة الأجهزة الإلكترونية الحديثة، أنماط الشخصية وأساليب التعبير.

ولنضرب مثلاً على ذلك مجموعة من طالبات المرحلة الثانوية بدمشق أثناء مغادرتهن اليومية للمدرسة. فقبل عدة سنوات كُنّ يرتدين بذلة الفتوة العسكرية التي تجعل منهن شبيهات بمجنّدات صغيرات، ولكن هذا الرداء الموّحد تغيّر في ظل حكم الرئيس بشار الأسد، الذي اتّسم بنوع من الإصلاح المتدرّج. في الحقيقة ليس هناك أي شيء في النظام أكثرُ مسرحيةً مما هو حال الرداء الموّحد للطالبات حالياً. فتلك الطالبات أخذن يشبهن الآن مجموعات صغار الموظفين في المؤسسات الخاصة عبر ارتدائهن قميصاً زهرياً تحت بذلة رمادية اللون. وهذا الرداء يناسب تماماً عصر الانفتاح الاقتصادي. ولكن ما إن تخرج الفتيات من مبنى الثانوية حتى يرتدي البعض منهن مباشرةً الحجاب مع المعطف الطويل. إن هذا النمط من الرداء الاسلامي الملتزم والممنوع تماماً داخل أسوار المدرسة، قد لاقى رواجاً في الحياة اليومية للمراهقات خلال العقود الأخيرة.



يؤرِخ البعض لعودة الحجاب إلى بدايات أعوام الثمانينيات، حيث اتّهمت بعض الإشاعات ميليشيا رفعت الأسد، شقيق الرئيس، بخطف النساء من الشوارع، وبنزع غطاء رأس المحجّبات من قبل المظليات اللواتي كنّ يتجوّلن بالشوارع، وذلك كمحاولةٍ لعلمنة قسرية، وبسببها أبعد رفعت الأسد وأصبح شخصية غير مرغوب بها في سوريا.

لقد قابلت في نهاية الثمانينيات فتاة رائعة تدعى تالا أثناء زيارتي لأسرتها في مدينة حماة المعروفة بمحافظتها الشديدة. كان عمري آنذاك حوالي العشرين عاماً في حين كان عمرها ثمانية أو تسعة أعوام. وخلال الأعوام الأخيرة لاحظت بأنها قد ارتدت التنورة السوداء ذات الثنيات التي تبلغ الكعبين، إضافة إلى تلك الأثواب الشنيعة الضيقة وغير الشفافة بلون البشرة، حالها كحال أمها وخالاتها. وبالتالي لم أتفاجأ أيضاً بارتدائها ذلك الحجاب المزدوج على طريقة أهل حماة، أي "الأمطة" وهي عبارة عن عصبة تمنع خصلات الشعر من الظهور يغطيها خمار أبيض مربوط على مستوى العنق، إضافةً الى خمارٍ أسودٍ مزدوج محكم تحت الأنف مباشرة. لقد تزوج كلانا في نفس الوقت تقريباً وكان لأولادنا العمر نفسه. ولكنها بدت بضعف عمري كما أنها لم تمرّ أبداً بمرحلة المراهقة. فقد انتقلت من بيت والدها إلى بيت زوجها دون المرور بتلك المرحلة الوسيطة من التجارب الاستكشافية. لقد انتقلت من مرحلة طفولتها إلى مرحلة طفولة أولادها.

ليس من الغريب أن نسمع اليوم في سوريا تلميحات لتلك الفتيات اللواتي لا يرتدين الحجاب بأنهن ينتمين حتماً إلى الأقليات، العلوية أو المسيحية، أو إلى صفوة محدودة من المسلمات اللواتي يمنحهن وضعهن الاجتماعي أو المهني أو الثقافي أو أسلوبهن الشخصي وثقتهن بأنفسهن، هامشاً أكبر من الحرية في مجال التعبير عن الرأي أو الاختيارات الشخصية، الأمر الذي يزيد من عزلتهن عن الأغلبية. إضافة إلى ذلك، فإننا نجد بأن عدد الشابات السوريات المسلمات اللواتي اخترن عدم ارتداء الحجاب يتناقص مقابل عدد قريناتهن اللواتي اخترنه. ولكن كيف حدث ذلك؟

بخصوص أسرة تالا الممتدة استغرقت العملية عدة عقود. فبالنسبة لأكبر خالاتها السبع والتي نشأت في القنيطرة خلال الأربعينيات، فقد كانت ترتدي خلال الستينيات "ملاية زمّ"، أي غطاء غير ثابت، تخفي معظم وجهها، وقد بقي هذا رداؤها لغاية زواجها. كانت ترتدي ذلك الثوب بناءً على التقاليد المحلية التي عاشت فيها، وليس من منطلقٍ إسلامي كالذي نشاهده اليوم. ولم تكن تتجنب أو تختبئ من رجال أسرتها أو من الجيران أو حتى من الأصدقاء كما هو حال النساء المحجبات اليوم. وإنما كان ارتداؤها للـ "ملاية الزمّ" كرداء خارجي تتجنب من خلاله نظرات الرجال الأجانب حين تخرج إلى الشارع. تلك الخالات الأكبر سناً خلعن الأثواب التقليدية للصبايا حين تزوجن بسن الخامسة عشر تقريباً. أماّ أزواجهن الذين كانوا غالباً موظفين حكوميين أو ضباطاً في الجيش، فقد كانوا رجالاً ينتمون لعالم ودولة علمانيين، ولذلك كانوا يرغبون أن تظهر زوجاتهن بمظهرٍ معاصر بدلاً من المظهر التقي والمحتشم. 

لقد عثرت على صورةٍ مدهشة تعود للخمسينات لإحدى خالات تالا الكُبريات وتدعى أم عماد، حيث كانت في السادسة عشر من عمرها وهي واقفة مع زوجها وقد وضعت على رأسها قبعة عسكرية بطريقة أنثوية. لقد بدت رائعة ومثيرة وواثقة في الحماية الجديدة لزوجها. وعندما يتداول اليوم أحفادها هذه الصورة فإنهم يظهرون صدمتهم على الطريقة التي ظهرت فيها جدتهم بينما تضحك صاحبة الصورة في سرّها. ففي بداية الثمانينات وتماما بعد زواجها، كانت أم عماد تضع "إشارباً" معقوداً أسفل ذقنها حين تخرج، مرتديةً تنورة إلى الركبتين وقميصاً بأكمام قصيرة.

إحدى أخوات أم عماد التي تزوجت بضابط كانت علمانية تماماً، بينما هناك أخرى تزوجت بتاجر نسيج بحي الميدان المحافظ بدمشق، ظلت على عادتها بارتداء الملاية الزمّ التقليدية. في حين أننا نجد بأن أم تالا والتي تزوجت بابن عمها في مدينة حماة المحافظة، قد حافظت هي الأخرى على العادات والتقاليد شديدة المحافظة لهذه المدينة. لقد كان دور البيئة مؤثراً جداً.

فأم عماد التي قامت بتربية سبع فتيات رائعات وصبيين، استبدلت "إشاربها" الفضفاض بحجابٍ إسلامي مربوط بدبابيس، وكان ذلك إثر الحادثة التي جرت مع بداية الثمانينات، والتي قامت خلالها مجموعات شبه عسكرية من الكشافة التابعين لرفعت الأسد بالانتشار في أسواق دمشق لنزع غطاء الرأس عن النساء باسم العلمانية الثورية. لقد كانت أم عماد في حافلة نقل داخلي حين واجهتها فتاة من تلك المجموعات التي قامت بنزع غطاء رأسها. وأثناء عودتها إلى المنزل وهي تنتحب، اقتربت من جارٍ لها علوي يعمل لصالح الحكومة، وعبّرت له بشجاعة عن سخطها وخجلها إزاء سلوك الدولة. ومنذ ذلك الحين لم يعد ارتداء غطاء الرأس مجرّد عادة متخلفة بل مسألة مبدأ وهوية. وعليه فقد التزمت النموذج الإسلامي في اللباس، غطاء أبيض أكبر من سابقه معصوب على جبهتها ومعقود بإحكام أسفل ذقنها، إضافة إلى معطف طويل يخفي تنانيرها وأثوابها.

لم ترتدي أيٌ من بنات أم عماد الكبيرات أي نوع من أنواع "الإشاربات" أثناء صباهن خلال السبعينيات، بل ارتدين في بداية ومنتصف الثمانينيات غطاء الرأس الأبيض المُثبّت بالدبابيس باعتبارهن زوجات محترمات وذلك بضغط من بعض الأصهار المحافظين. لقد أصبح الحجاب والمعطف الطويل الذي يصاحبه رمزاً للكرامة والهوية السنّية وخاصة في هذه الفترة من الاضطرابات.

لم تنتظر أصغر أخوات وبنات تلك السيدات، واللواتي كبرن خلال فترة التوتر تلك، أن يتزوجن حتى يرتدين الحجاب. فقد شكّلت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات نقطة تحوّل: لقد بدأ الطلب بازدياد على المحجبات للزواج منهن من قبل رجال المدينة المنحدرين من الطبقات المتوسطة. ولم يتردد هؤلاء بالتصريح باعتبار الاحتشام الإسلامي شرطاً لعقد الزواج. ولكن لم يكونوا بحاجة إلى القيام بذلك، فالفتيات اللواتي وقع عليهن الاختيار قد استبقن الأمور في تلبية المطلب الجديد.

أمّا بالنسبة للفتيات المنحدرات من الطبقات العاملة أو الفقيرة، فقد كانت مزايا الحجاب أكبر بالنسبة لهن من غيرهن.  ففي سياق الأزمة الاقتصادية الخانقة للثمانينيات، فإن الزي الإسلامي المؤلف من غطاء الرأس والمعطف كان كفيلاً بستر الفقر والأصول الاجتماعية وذلك لما تخفيه من ثياب متواضعة أو تقليدية. فالحجاب يسهّل للبيئات الفقيرة والريفية الوصول إلى سوق العمل وميدان التعليم وخاصة في مجالٍ عام يُعتبر خطراً، كما أنه يفتح المجال لإمكانيات الزواج من أشخاص ينحدرون من طبقات اجتماعية أرفع مستوى.

لقد أصبح الحجاب منذ منتصف التسعينات القاعدة بدلاً من كونه استثناءً في العائلات السنّية. فقد بدأت الفتيات بارتدائه، سواء في أحياء الطبقات العاملة أو في العائلات المحافظة، اعتباراً من سنّ البلوغ بل أحياناً قبل ذلك. فإذا كانت بعض الحالات تتعلق بطلب الأب أو الأخ بارتداء الحجاب، فإن أغلب من ارتدينه في سن المراهقة لم يكنَّ بحاجةٍ لأمر من السلطة الأبوية، فالمثل الإيجابي الذي يعّبر عنه والضغط اللطيف من قبل القريبات الأكبر سناً، كذلك ازدياد الحظوظ بالنسبة للزواج، والتعليم والعمل، ومن منطلق اقتصادي أيضاً، إضافة إلى التعبير الصريح والجريء لهويتهن، كل تلك العوامل تكمن وراء ارتداء الحجاب. وقد بدأت الحياة الاجتماعية للمحجبات تشهد تزايداً ملموساً لاجتماعات تَقُمنَ فيها بأداء الصلوات الجماعية والموالد والدروس الدينية الأسبوعية التي تعطيها مدرسات مادة التربية الإسلامية، وتتم دعوة الفتيات غير المحجبات لحضورها لتشجيعهن على تغيير نمط حياتهن. وبذلك نشأت ثقافة جديدة.


كذلك اشتمل الحجاب على أنماط فرعية متعددة له. فغطاء رأس أزرق بسيط مع معطف وأحذية تقليدية ذات كعب منخفض تدلّ على الورع والتوجه الإسلامي للتلميذة. بينما يعكس الغطاء والمعطف الملونين تبرّج المرأة الشابة والمتزوجة حديثاً والتي حصلت على مجموعة كبيرة من الأثواب والأزياء. في حين أن غطاءً اسوداً يدلّ على تأثير البيئة المحافظة جداً كما هو حال الأحياء القديمة للمدينة. وأمّا الغطاء المتدلي على الكتفين بدلا من أن يُحشر أسفل العنق، يدلّ على أن هذه المرأة، والتي أصبحت مسنّة لدرجة أنها أصبحت تتذكر الفترة التي كانت تخرج فيها حاسرة الرأس، يدلّ على أنها أخذت تنظر الى العادات والتقاليد بشيء من اللامبالاة. أمّا بالنسبة للوشاح المربوط بطريقة تظهر فيها ثنيات مرتّبة بعناية بما يشبه غطاء بعض مقدمات البرامج من المحجبات في قناة الجزيرة، فهو يدلّ على الاعتداد بالنفس لدى الفتاة التي لم تتزوج بعد. وإذا ظهرت حدبة كبيرة خلف رأس الفتاة المتحجبة فهذا يدلّ على أن شعرها طويل ومربوط للخلف. كما أن هناك حجاب أنيق "على الطريقة الفرنسية" حيث ربطت أطرافه بعناية حول العنق، مثلما كنا نشاهده لدى نجمات السينما في الستينيات وهن جالسات في سيارة مكشوفة الغطاء. أمّا الحجاب الوقائي للنساء المتزوجات، والذي يجنبهن التعليقات اللاذعة لأهل الزوج وبعض الجيران الحشريين، فهو عبارة عن غطاء أسود يوضع على غطاء أبيض مربوط فوق الأنف والفم بحيث يخفيهما. إن السيدات اللواتي يعتمدن هذا النوع من الحجاب، والذي ليس له أية سابقة تقليدية أو حتى دينية، يزعمن أنه كلما كان الحجاب يخفي المزيد كلما كان ذلك أفضل. وحين يدفعهن المرء للحديث فأنهن يبحن عموماً بأنهن يشعرن بكونهن مطوّقات ببيئتهن الزوجية، وبالتالي يبدو وكأنه يتيح لهن المجال للتنفس قليلاً.

إن كافة هذه الأشكال من الحجاب ممكن أن تتواجد معاً هذه الأيام في البيئة السنّية. ونادراً ما يطرح السؤال على الفتاة، في بيئة صديقات تالا أو قريباتها، حول الخيار الذي تفضله من الزي الإسلامي. أمّا في مناسبات الأعراس أو الخطبة والتي تكون مقصورة على الإناث، فالجميع يتخلى عن اللباس اليومي الاعتيادي، فيظهرن رائعات ومشرقات في أثواب للسهرة ملونة بألوان زاهية ومرتبات شعورهن بطريقة أنيقة، منطلقات ومليئات بالفرح لينغمسن في الرقص. وكانت هناك ابنة عم لم تكن تشعر بالراحة: فهي طبيبة مقتنعة بالتوجه العلماني حيث أمضت معظم فترة عملها في ليبيا كمغتربة. هذه المرأة لا تشعر بأنها في بيئتها حين تكون ضمن الاجتماعات العائلية، اذ ينظر إليها كشخص جامد بسبب مظهرها الخارجي البسيط، والذي يبدو أنه لا يخفي أية جاذبية جنسية غير عادية على عكس بنات عمها المحجبات. ففي الحقيقة إن بساطة الحجاب الخارجية تحمي وتعزّز الأنوثة المفرطة في النطاق الخاص للحياة الجنسانية، لدى الفتيات المراهقات كما لدى النساء المتزوجات الأكبر سناً.

لقد لاحظنا، خلال التسعينيات، أن سن الزواج لدى المراهقات قد انخفض بصورة مقلقة، فلم يكن من النادر أن نجد فتيات تتزوجن وهن في الرابعة عشر أو الخامسة عشر من أعمارهن. إذ وجدنا أن الوضع الاقتصادي المتدني إضافة إلى ثقافة إسلامية محافظة، دفعا الأهل المنحدرين من الطبقات العمالية والطبقات الوسطى أو حتى من فئات اجتماعية ميسورة أكثر، إلى تزويج بناتهن زواجاً مناسباً بدلاً من ارسالهن إلى الجامعة – التي أخذت تزيد من عدد حاملي الشهادات من دون عمل- ورؤيتهن وقد تناقصت فرص زواجهن بسبب تقدّمهن بالعمر. فإحدى بنات عم تالا قد خُطبت وهي في الثالثة عشر من عمرها إلى صيدلاني من الجوار. لم تتزوج أياً من بنات العائلة بهذا العمر منذ جيلين. وحين سألنا ابنة العم هذه وأهلها حول هذه النقطة، أجابوا بأنهم وجدوا في هذا الزواج فرصة لا يمكن أن تأتي إلا مرة واحدة في العمر. فالفوائد المحتملة في هذا الزواج تفوق كثيراً مخاطره.

أمّا بالنسبة للمراهقين من الذكور فالقصة تختلف تماماً. فسنُّ الزواج قد ارتفع بالنسبة لهم بنفس الوقت الذي ارتفعت فيه التكاليف الضرورية "لفتح بيت"، وفي الوقت الذي كان يعاني فيه الاقتصاد السوري من ركود. ولذلك فالزواج والحصول على منزل مستقل باتا يتطلبان سنوات من الاقتصاد والعمل الشاق إضافة إلى دعم الأسرة، وهذا ما يفسّر لنا لماذا تتزوج صبايا صغيرات من عمر تالا برجال في الثلاثين من عمرهم. إن فترة مراهقة الشباب دون أي أمل في المدى المنظور بالانفصال عن الأهل قد تمتد طويلاً. ويُشكّل كلٌ من العمل الشاق أو المثابرة على الدراسة حلاً للكثير منهم. أمّا من لا يمتلكون "الواسطة"، فهناك الخدمة العسكرية التي تنتظرهم وهي آخر مؤسسة للدولة تُخضع المراهقين لسلطتها؛ ومن سخرية الأقدار فإن هذه المؤسسة هي التي تقلّب هؤلاء المراهقين ضدّ الدولة. ومن استطاع منهم أن يسافر إلى الخليج أو أوروبا أو أمريكا فأصبح يكسب أقل مما كان يكسب آباؤهم أو أشقاهم الأكبر سناً. والبعض منهم يلجأ إلى الدين كي يلتمس فيه البناء الاجتماعي والعاطفي. وهكذا نجد أنه عندما تترتب الزيجات فإن فارق العمر والثقافة بين الزوجين المقبلين على الزواج يزداد اتساعاً.

تختلف المراهقة جداً بالنسبة للتلاميذ من الطبقات المتميزة والمنحدرين من النخب كما هو حال الطلاب الذين كنت أدرسهم في مركز اللغة الأمريكية بدمشق. هؤلاء الأولاد الأغنياء كانوا بصفة عامة، ولكن ليس دائما، مدللين جداً. ولكنهم ومثل أقرانهم من الفقراء، يعيشون ضمن أسرهم إلى أن يتمكنوا من تأسيس أسرهم الخاصة، فالأسرة توفّر لهم كل احتياجاتهم الأساسية. بالنسبة لهؤلاء تُعتبر المراهقة فترة استهلاك. فمعظمهم يمتلك امكانات كبيرة تساعدهم على تحمّل النفقات الباهظة لدروس تعلم اللغة الإنكليزية والحصول على السيارات والموسيقى والفسحات. ومن المرجح أن لا تتلقى دولة البعث سوى دعم محدود من هؤلاء المراهقين الميسورين الذين يمتلكون المال لإنفاقه وتنمية شخصياتهم عبر عملية الاستهلاك وتبادل الرسائل من دون حدّ على هواتفهم المحمولة. فالعالم الظاهري للمراهقين بسوريا والذي هيمنت عليه حيوية التستر المرتبطة بالحجاب، نجد فيه أن وسائل الاتصال التقنية الجديدة - وخاصة الهاتف المحمول والذي يعتبر سمة أخرى من سمات سوريا في عهد بشار الأسد- قد لعبت دوراً هاماً في تسهيل ظهور ثقافة مميزة للمراهقة. ففي عالمٍ يشكّل فيه تبادل النظرات بين الرجال والنساء بعداً جنسياً قوياً ومنضبطاً للغاية، فإن استخدام الهاتف المحمول بين الأصدقاء الشباب يجاري استخدامه من قبل رجال الأعمال باعتباره الشكل السائد للإلكترونيات ذات الاستخدام الفردي.

إن الهاتف المحمول هو من الكماليات المرغوبة والمطلوبة جداً، ويرتبط امتلاكه بالنسبة للمراهقين بالدخل الشهري للأب أو الخطيب. إن هذا الهاتف يتيح مجالاً أكبر في العلاقات والتوسّع فيها بعيداً عن الهاتف الثابت الخاص بالأسرة والموجود في غرفة الجلوس المشتركة. فبعيداً عن مخاطر الاتصال المباشر بين الأشخاص وعن الأنظار، ينخرط الشباب والصبايا ذوو الثياب والسلوك المحتشمين، في نوع من العلاقات الغرامية والتي ساعدت على إثارتها الاتصالات الإلكترونية. لا يساعد هذا الهاتف فقط المراهقين في التحرّر من قيود الهاتف الثابت والمشترك بين أفراد الأسرة وإجراء الأحاديث الخاصة، بل إنه يسمح لهم بتبادل الرسائل الإلكترونية ذات التكلفة المنخفضة وبشكل صامت. ويتصّل الأصدقاء والمعارف فيما بينهم عبر هذا الجهاز، دون أية رسائل خطية، كي يعبروا عن تفكيرهم ببعضهم البعض، أو أنهم يباشرون أحاديث غرامية خارج إطار التجارب الشخصية. إن الشباب السوري، ومن دون أن يقولوا أي كلمة، وعبر تقنيات المعلومات التي تتجاوز مهارات معظم من أهم أكبر سناً، قد أصبح بإمكانهم أن يتواصلوا ويتغازلوا ويختبروا غياب المراقبة، كل ذلك في عالم الهاتف المحمول والذي يتواجد جنباً إلى جانب مع عالم الحجاب وفي عقره.

يشكّل كلٌّ من الورع والاحتشام الإسلاميين من جهة، والتقنيات الحديثة والحريات من الجهة الأخرى، تهديدات دائمة لهيمنة دولة البعث العلمانية والاستبدادية، وذلك منذ العصر الذهبي للإخوان المسلمين خلال الثمانينيات إلى الضغط المتزايد الحالي لإصلاح النظام الراهن. ففي بلد يغلب عليه العنصر الشبابي كسوريا، سيشكّل المراهقون أحد ميادين المعركة، لأن اختياراتهم سوف تكون حاسمة في تحديد المسار المستقبلي للبلاد. إن السهولة البالغة في تعايش ثقافة الحجاب المتكلّفة مع عالم الاتصالات الإلكترونية الذي يلغي الحدود بين المجالين العام والخاص، أخذ يشير إلى أن عملية الإصلاح الجارية من المرجح أن تكون مصدراً لظهور تشكيلات ثقافية محلية جديدة. 
ليلى هدسون

أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة أريزونا، متخصصة بالتاريخ الحديث للشرق الأوسط وأنثروبولوجيا الشرق الأوسط. صدر لها كتاب عن سوريا بعنوان "تحويل دمشق: الفضاء والحداثة في المدينة الإسلامية، 2008".